من يقود تراجع الدولار.. الفيدرالي أم ترامب أم الاقتصاد العالمي؟
يشهد الدولار الأمريكي في عام 2025 واحدة من أكبر مراحل التراجع في تاريخه الحديث، مسجلاً خسارة نصف سنوية هي الأكبر منذ عام 1986، بنسبة بلغت نحو 10% أمام سلة من العملات العالمية، وهذه الخسارة ليست مجرد نتيجة لتقلبات السوق، بل تعكس تحولاً هيكلياً في بنية الاقتصاد الأمريكي ومكانة الدولار عالمياً.
منذ اتفاق “بريتون وودز” عام 1944، تحوّل الدولار إلى العملة المرجعية الأولى في العالم، وذلك بفضل ارتباطه بالذهب ودعمه من أقوى اقتصاد عالمي آنذاك، ومع فك ارتباطه بالذهب لاحقًا حافظ على هيمنته من خلال اتفاقيات “البترودولار” والشبكة الواسعة من التحالفات الاقتصادية والعسكرية.
الركائز التي دعمت قوة الدولار لعقود
رغم ما سبق، بدأت الركائز التي قامت عليها قوة الدولار بالتآكل تدريجيًا، ومن أبرزها:
- النموذج التجاري الأمريكي الذي قام على الانفتاح والعولمة، والذي حدته السياسات الحمائية التي يتبناها الرئيس دونالد ترمب في الوقت الراهن، الأمر الذي أضر بالتبادل التجاري البالغ 7.37 تريليونات دولار سنوياً.
- المؤسسات الأمريكية التي كانت تُضرب بها الأمثال في الكفاءة والحيادية، بدأت تواجه تراجعاً في الثقة مع تصاعد الاستقطاب السياسي وتقليص عدد الموظفين الفدراليين، بما في ذلك الضغوط المباشرة على استقلالية الاحتياطي الفيدرالي.
- العجز المالي المتزايد والدين العام الذي تجاوز 37 تريليون دولار، مع مشروع “الخفض الضريبي الكبير” المتوقع أن يضيف نحو 2.8 تريليون دولار إلى العجز، كلها عوامل زادت المخاوف بشأن الاستقرار المالي للولايات المتحدة.
- تراجع احترام الولايات المتحدة للتحالفات والمواثيق الدولية أدى إلى عزوف العديد من الدول عن الاعتماد على الدولار في معاملاتها.
- التحولات الجيوسياسية دفعت دولاً كالبرازيل، وإندونيسيا، وروسيا إلى تطوير أنظمة مدفوعات محلية، أو الاعتماد على عملات بديلة مثل اليوان والروبل تقليلاً للارتباط بالدولار، وحتى صناديق التقاعد الأوروبية بدأت في تقليص أصولها المقومة بالدولار، وهو ما يعكس انسحاباً مؤسسياً واسعاً.
المؤشرات التي تؤكد دخول الدولار في أزمة فعلية
في خضم ذلك كله، تباطأ الاقتصاد الأمريكي إلى نمو سلبي بنسبة -0.3% في الربع الأول من 2025، وسط توقعات سنوية لا تتجاوز 1.4%، ومع تراكم المؤشرات السلبية لم يعد يُنظر إلى الدولار كملاذ آمن كما في السابق.
كما أنّ التقارير المصرفية الدولية أظهرت أن الرهانات ضد الدولار بلغت أعلى مستوياتها منذ عقدين، في حين تراجعت مراكز الاستثمار به بين مديري الصناديق إلى مستويات غير مسبوقة، أما الأسواق فقذ بدأت فعلياً في إعادة تقييم ثقتها في العملة الأمريكية، في وقت يواصل فيه الفيدرالي التردد بشأن السياسة النقدية، وتزداد الضغوط من الإدارة السياسية.
وهكذا، فإن ما يواجهه الدولار اليوم ليس أزمة عابرة، بل إعادة تشكيل لموقعه في النظام المالي العالمي، ومع غياب إصلاحات جوهرية في السياسة المالية والنقدية، قد تستمر موجة التراجع، وتترك آثاراً عميقة على الاقتصاد الأمريكي ومكانته الدولية.
قد يهمّك أيضًا: قرار حظر السفر لأمريكا شمل 12 دولة وتقييدات على سبع دول أخرى
هل ساهم الاحتياطي الفيدرالي في تراجع الدولار؟
قال الدكتور حسين العسيلي، الخبير المصرفي، إن الدولار الأمريكي يشهد حاليًا تراجعًا ملحوظًا أمام سلة من العملات الرئيسية، في ظل تحركات الأسواق العالمية وردود الأفعال تجاه تصريحات رئيس الفيدرالي الأمريكي، جيروم باول، والتطورات الجيوسياسية الأخيرة.
وقد أوضح العسيلي أن الأسواق كانت تترقب أن يقدم باول نبرة تيسيرية تشير إلى احتمالية خفض أسعار الفائدة في المستقبل القريب، غير أن ما جاء في شهادته لم يلبِّ هذه التوقعات، ما أدى إلى إبقاء الدولار تحت ضغط متزايد.
وأضاف أن تداولات اليوم شهدت ارتفاعًا واضحًا في معظم العملات الرئيسية أمام الدولار، حيث ارتفع اليورو كما سجل الين الياباني مكاسب ملموسة ليهبط الدولار دونه إلى أقل من 145 ين، كما سجل الفرنك السويسري والجنيه الإسترليني صعودًا مماثلًا، وهو ما يعكس بشكل مباشر التوجه العام للمتعاملين نحو تقليل الاعتماد على الدولار في الوقت الراهن.
كما أشار الخبير إلى أن الأوضاع الجيوسياسية، لا سيما التوترات بين إسرائيل وإيران، وسلوك السوق تجاه تلك التطورات، لعبت دورًا محوريًا في تقليص الطلب على الدولار كملاذ آمن، وهو ما لم يكن معتادًا في مثل هذه الظروف.
وشدَّد على أن فقدان الاستقلالية الكاملة للاحتياطي الفيدرالي، وتزايد المخاوف بشأن العجز في الميزانية الأمريكية وارتفاع مستويات الدين، جميعها عوامل أضعفت من مركز الدولار عالميًا. كما أن الإدارة الأمريكية، وخاصة في ظل نهج الرئيس دونالد ترامب، طالما أبدت رغبتها في رؤية دولار أضعف لدعم الصادرات، وهي سياسة لم تختفِ من خلفية المشهد حتى الآن.
واعتبر أن ما نشهده اليوم يمثل اختبارًا جديدًا لمكانة الدولار، إذ إنَّ التراجع المستمر منذ بداية العام بنسبة تقارب 9% أمام سلة من العملات، يعكس بوضوح إعادة تموضع في الأسواق العالمية، حيث أصبحت العملات الأخرى أكثر جاذبية للمستثمرين في ظل غياب إشارات واضحة من الفيدرالي.
وفي ختام تصريحه، أكد الدكتور حسين العسيلي أن الدولار قد يستمر في هذا الاتجاه التراجعي على المدى القصير والمتوسط، ما لم تحدث مستجدات جوهرية في السياسة النقدية الأمريكية أو انفراجات حقيقية في المشهد السياسي والمالي للولايات المتحدة.
توجهات الإدارة الأمريكية وتأثيرها على قيمة الدولار
من جهته، قال الدكتور رمزي الجرم، الخبير الاقتصادي، إن الإدارة الأمريكية الجديدة تنتهج استراتيجية اقتصادية مختلفة ترتكز بشكل واضح على تعزيز الاقتصاد العيني، وبالأخص زيادة مساهمة الأنشطة الإنتاجية، وعلى رأسها القطاع الصناعي، في الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يمثل تحوّلًا جوهريًا عن السياسات السابقة التي كانت ركزت على الخدمات والأنشطة المالية.
وأوضح الجرم أن ملامح هذه السياسة بدأت في الظهور من خلال فرض تعريفات جمركية إضافية لحماية الصناعة المحلية، وفي الوقت ذاته تسعى الإدارة إلى تحقيق حصيلة جمركية كبيرة تُستخدم لتمويل الإنفاق الحكومي، بما يسهم في تحفيز الاقتصاد ومنع انزلاقه نحو الركود، لا سيما خلال المرحلة الأولى من تطبيق السياسات الحمائية.
وأضاف أن الإدارة الأمريكية، منذ مطلع العام الجاري، تسعى بوضوح إلى خفض سعر صرف الدولار الأمريكي على المستوى العالمي، حيث تستهدف تقليل قيمته أمام العملات الرئيسية بنسبة تتراوح بين 25% إلى 30%.
ويرى الدكتور الجرم أن هذا التوجه يأتي في إطار استراتيجية لزيادة القدرة التنافسية للصادرات الأمريكية، وفي الوقت ذاته الحد من فاتورة الواردات، وهو ما يعزز من الميزان التجاري لصالح الولايات المتحدة.
اقرأ أيضًا: مشروع قانون ترامب الضريبي يُشعل الجدل في واشنطن
كيف أثّر ارتفاع الدولار على الاقتصاد الأمريكي؟
أشار الجرم إلى أنَّ ارتفاع سعر الدولار تاريخياً كان سببًا في تآكل المكاسب الاقتصادية الأمريكية، لا سيما من قطاعي السياحة والسفر، إذ إنّه يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الإنفاق للسائح الأجنبي داخل الولايات المتحدة، ويقلص الطلب على الخدمات والسلع الأمريكية، كما ينعكس سلبًا على الطلب الخارجي على المنتجات الأمريكية المصدرة بسبب ارتفاع أسعارها النسبي عالميًا.
وأكد الخبير أن من ضمن الإجراءات المتوقعة في هذا السياق، قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بممارسة ضغوط على مجلس الاحتياطي الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض، بهدف كبح جماح قوة الدولار أمام باقي العملات، وهو ما يؤدي تلقائيًا إلى دعم الصادرات وخفض الواردات، بما يتماشى مع أهداف النمو الإنتاجي المحلي.
كما أشار إلى أن قوة الدولار خلال الفترات الماضية كانت تمنح ميزة نسبية للمستوردين داخل السوق الأمريكي، إذ كانت تمكنهم من استيراد كميات أكبر بأسعار أقل، وهو ما أضر بالمنتجين المحليين، وبالتالي فإن خفض قيمة الدولار سيدعم بشكل مباشر الصناعة الأمريكية ويحد من الاعتماد على الخارج.
انعكاسات إيجابية على الاقتصاد
تابع الدكتور رمزي الجرم حديثه بالتأكيد على أن هذا التوجه سيكون له انعكاسات إيجابية على الاقتصاد الأمريكي، لكن على حساب الشركاء التجاريين الكبار، مثل أوروبا والصين واليابان، الذين قد يتضررون من تراجع جاذبية صادراتهم داخل السوق الأمريكية.
في المقابل، قد تستفيد اقتصادات الدول ذات التبادل التجاري المحدود مع الولايات المتحدة من تعزيز قيمة عملاتها المحلية مقابل الدولار، ما يمنحها مرونة أكبر في إدارة أسعار الصرف وتحقيق التوازن النقدي.
وفي جانب آخر، أشار الدكتور الجرم إلى أن خفض قيمة الدولار أيضًا يخدم هدفًا استراتيجيًا للإدارة الأمريكية يتمثل في الحد من تفاقم الدين العام، الذي تجاوز حاجز 36 تريليون دولار أمريكي، إذ إن خفض الدولار قد يدفع الشركاء التجاريين مثل الصين واليابان إلى إعادة هيكلة حيازاتهم من الدولار لصالح عملاتهم المحلية، مما يُمهد الطريق نظريًا نحو تقليص سقف الدين الأميركي بشكل تدريجي، وتقليل الضغط على الخزانة الفيدرالية.
واختتم الجرم تصريحاته بالتأكيد على أن هذا التحول في السياسة الاقتصادية الأمريكية يتسم بقدر كبير من الواقعية الاقتصادية لكنه محفوف بتحديات جيوسياسية وتجارية، تتطلب تنسيقًا عالي المستوى مع الفيدرالي، والشركاء الدوليين، لاحتواء أي تداعيات قد تنشأ على الأسواق المالية العالمية.
قد يهمّك أيضًا: تفاصيل الاتفاق التجاري بين أمريكا والصين وتأثيره على الاقتصاد العالمي