ترامب يُربك المعادلة.. أوروبا تُعيد التفكير في الغاز الروسي

تقرير: باسل محمود

بعد ثلاث سنوات من محاولة أوروبا الانفصال الطاقي عن موسكو، بدأت بعض النوافذ المغلقة تُفتح من جديد؛ حيث بدأت أزمة الثقة في الغاز الأمريكي تتزايد، مدفوعةً بتصعيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ما يدفع قادة الطاقة الأوروبيين إلى إعادة التفكير في استئناف واردات الغاز من روسيا، ذلك الشريك الذي أُقصيَ من المعادلة عقب الحرب في أوكرانيا، بحسب رويترز.

في أروقة كبرى شركات الطاقة الأوروبية، وفي المصانع التي تعتمد على الغاز كوقود حياتي، تدور نقاشات صامتة وعلنية حول ضرورة التنويع من جديد، حتى وإن كان أحد الخيارات هو غاز الكرملين.

عقدة الغاز الأمريكي.. هل يتحول من منقذ إلى مُهدِّد؟

بين عامي 2022 و2023، أنقذ الغاز الطبيعي المُسال الأمريكي (LNG) أوروبا من شتاء قاسٍ، عقب الانخفاض الحاد في تدفقات الغاز الروسي، لكن مع عودة ترمب إلى المشهد الرئاسي تحوّلت هذه السلعة الحيوية إلى ورقة ضغط جيوسياسية.

وفي هذا السياق، يقول ماروش شيفتشوفيتش، المفوض الأوروبي لشؤون الطاقة: “نحتاج مزيدًا من الغاز المُسال، لكن التنوع أصبح ضرورة ملحّة”؛ فلم يعد يُنظر إلى الغاز الأمريكي كسلعة محايدة، حيث إنّ إدارة ترامب ربطت صادرات الغاز بتقليص الفائض التجاري الأوروبي ضمن سياسة “أمريكا أولاً”، ما ألقى بظلال الشك على استمرارية هذه الإمدادات.

بينما يُحذّر خبراء من احتمال فرض قيود على التصدير لأسباب سياسية، أو نتيجة ارتفاع الطلب المحلي، تُدرك أوروبا أن الاعتماد المفرط على شريك واحد يحمل مخاطره، حتى لو كان هذا الشريك حليفًا استراتيجيًا.

عودة الغاز الروسي إلى طاولة النقاش

وسط هذا التحول، برزت تصريحات مسؤولين من الصف الأول في قطاع الطاقة الأوروبي تُلمّح إلى إمكانية استئناف تدريجي للواردات من روسيا، بما في ذلك الغاز الطبيعي المُسال.

ديدييه هولو، نائب الرئيس التنفيذي لشركة “إنجي” الفرنسية، قال: “إذا تحقق قدر معقول من السلام في أوكرانيا، يمكننا استئناف تدفقات سنوية من الغاز الروسي بين 60 إلى 70 مليار متر مكعب”، حيث يمكن لهذه الكمية أن تُغطي نحو ربع احتياجات الاتحاد الأوروبي من الغاز، في مقارنة صريحة مع الحقبة التي كانت فيها روسيا تُلبّي 40% من الطلب.

حتى باتريك بويانيه، الرئيس التنفيذي لتوتال إنرجيز، وهي من بين الشركات التي تستورد الغاز الأمريكي وتُسوّق الغاز الروسي من “نوفاتك”، عبّر عن قلقه من “الاعتماد الأحادي”، داعيًا إلى “تنويع أكثر واقعية، حتى لو كان يشمل روسيا”.

من ملف الغاز الأوروبي اقرأ: تداعيات توقف إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا

ألمانيا.. الاختبار الأصعب

في ألمانيا، تتجسد هذه الأزمة بشكل أكثر حدة، فبعد أن كانت تعتمد بشكل شبه كلي على الغاز الروسي، تعاني اليوم من ضغوط صناعية متزايدة بسبب ارتفاع الأسعار، وتذبذب الإمدادات، وانكشاف بعض المصانع.

وفي مجمع لونا الصناعي، حيث تعمل شركات مثل “داو كيميكال” و”شل”، ارتفعت الأصوات المطالبة باستعادة الغاز الروسي. ويقول كريستوف غونتر، مدير المجمع: “نحن في أزمة حادة، ولا نستطيع الانتظار إلى أجل غير مسمى”.

وفق استطلاعات للرأي، فإن نحو 49% من الألمان في شرق البلاد يؤيدون عودة الغاز الروسي، وسط شعور متزايد بأن القطيعة كانت سياسية الطابع أكثر من كونها اقتصادية مستدامة.

الغاز الروسي لا يزال حاضرًا

رغم الحرب والعقوبات، لم تختف روسيا تمامًا من خارطة الطاقة الأوروبية، حيث إنّها ما زالت تُمثّل 18.8% من واردات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، مقابل 33.6% للنرويج، و16.7% فقط للولايات المتحدة، بحسب بيانات “يوروستات”.

لكن بعد إغلاق خطوط الأنابيب عبر أوكرانيا، يُتوقع أن تهبط حصة روسيا إلى أقل من 10% هذا العام، وهو ما قد يُعيد تشكيل معادلة العرض والطلب، وربما يُعيد فتح الباب للمفاوضات.

اقرأ أيضًا: ترامب يتنازل عن أوكرانيا ويصدم أوروبا

شركات أوروبية تقاضي روسيا

المفارقة أن الشركات التي تطالب اليوم بإعادة التوريد من روسيا، هي ذاتها التي تقاضي “غازبروم” في المحاكم الأوروبية بسبب إخفاقها في تلبية العقود. على سبيل المثال، حصلت شركتا “يونيبر” الألمانية و”أو.إم.في” النمساوية على تعويضات تبلغ 14 مليار يورو و230 مليون يورو على التوالي، وهناك دعاوى أخرى مفتوحة تطالب بمليارات.

مع ذلك، اقترح ديدييه هولو من “إنجي” أن تبدأ موسكو بسداد هذه الديون من خلال استئناف الإمدادات عبر أوكرانيا، كبادرة حسن نية وإعادة بناء للثقة، لكن هذا الطرح قوبل بتحفّظ سياسي شديد، لا سيما من أوكرانيا، إذ عبّر ماكسيم تيمتشينكو، الرئيس التنفيذي لشركة الطاقة الأوكرانية DTEK، عن خشيته من “أن يُكرر الأوروبيون الخطأ نفسه” الذي وقعوا فيه قبل 2022، عندما ربطوا أمنهم الطاقي بروسيا.

ترامب.. الحاضر الغائب في أزمة الطاقة الأوروبية

لا يمكن تجاهل تأثير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كل ما يحدث حاليًا؛ إذ إنّ مواقفه الأخيرة التي تربط التجارة بالطاقة، وتعامله مع الحلفاء الأوروبيين كخصوم اقتصاديين، تثير قلقًا واسعًا في بروكسل وبرلين وباريس.

ووفق الباحثة تاتيانا ميتروفا من جامعة كولومبيا، فإن الغاز الأمريكي أصبح في عهد ترمب “سلاحًا سياسيًا مقنّعًا”، وفي حال تصاعدت الحرب التجارية أو فرضت واشنطن قيودًا على التصدير، فإن أوروبا قد تجد نفسها في وضع أكثر هشاشة مما كانت عليه مع روسيا.

ومن ناحية أخرى، يُحَذِّر وارن باتيرسون، رئيس قسم السلع في بنك ING، من أنَّ ارتفاع الطلب الداخلي الأمريكي على الغاز، خاصة من قبل مراكز البيانات والمصانع، قد يُجبر واشنطن على تقليص التصدير، بغض النظر عن الأسباب السياسية.

موضوع ذو صلة: ترامب يُعيد صياغة سياسات الطاقة

هل هناك بديل حقيقي لأوروبا؟

أوروبا ليست بلا بدائل، لكنها محكومة بخريطة جغرافية وإمدادية معقدة، فالنرويج -الشريك الأكبر حاليًا- تواجه تحديات استدامة الإنتاج، كما أنّ شحنات الغاز المُسال من قطر وأفريقيا تبقى أقل استقرارًا من الغاز الأنبوبي.

في ظل هذه الظروف، تبدو العودة الجزئية إلى الغاز الروسي خيارًا منطقيًا من الناحية الاقتصادية، لكنه محفوف بعقبات سياسية وأخلاقية يصعب تجاوزها في المدى القريب.

بين مطرقة السياسة وسندان الاقتصاد، تجد أوروبا نفسها في مفترق طرق حساس في ملف أمن الطاقة؛ فالاعتماد الكامل على الغاز الأمريكي لم يعد خيارًا مستدامًا في ظل التقلبات السياسية، والعودة إلى الغاز الروسي تتطلب توازنًا دقيقًا بين المصالح الاقتصادية والاعتبارات الجيوسياسية. في النهاية، يبقى تنويع مصادر الطاقة وتحقيق الاكتفاء الذاتي هدفًا استراتيجيًا لا يمكن لأوروبا تأجيله أكثر.

قد يهمَّك أيضًا: حرب الجمارك العالمية تشتعل.. أوروبا تتوعد وترامب يصعّد

تابعنا على صفحتنا على فيسبوك

تابعنا أيضًا على صفحتنا على إنستغرام

أخبار ذات صلة