تقرير: باسل محمود
في وقت تتزايد فيه التوترات التجارية والسياسية، يجد جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، نفسه في موقف صعب؛ حيث يتوجّب عليه أن يوازن بين الحفاظ على الثقة في متانة الاقتصاد الأمريكي، وطمأنة المستثمرين بأن البنك المركزي مستعد للتدخل إذا دعت الحاجة.
وبينما يبدو أنَّ الفيدرالي في وضع “الانتظار والترقب”، فإنَّ الأسواق، التي تراجعت بشكل حاد خلال الشهر الماضي، تحتاج إلى إشارات أوضح، بحسب بلومبرج.
سياسة الفائدة.. ترقب وقلق في وول ستريت
تفاقمت حالة القلق في الأسواق المالية نتيجة للحرب التجارية المتصاعدة، التي أجَّجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصريحاته وقراراته المفاجئة؛ فقد أدت إلى تراجع مؤشرات الأسهم، وانخفاض عوائد السندات، وارتفاع مخاوف المستثمرين من ركود محتمل.
ومن المتوقع أن يُبقي الفيدرالي على أسعار الفائدة دون تغيير في اجتماعه المقبل يومي 18 و19 مارس، لكن الأسواق تتوقع ثلاثة تخفيضات خلال العام الجاري، بدءًا من يونيو.
وفي المقابل، يرى معظم الاقتصاديين أنَّ الاحتياطي الفيدرالي سيكتفي بتخفيضين فقط، وهو ما قد يعكسه المسؤولون في تحديث توقعاتهم الاقتصادية يوم الأربعاء، إلَّا أنَّ المشكلة الكبرى تكمن في التباين بين توقعات السوق والموقف الحذر للفيدرالي، فالمستثمرون يريدون تطمينات واضحة بأنَّ البنك المركزي سيتدخل سريعًا في حال تباطؤ الاقتصاد، بينما يصر باول على أن أي خفض للفائدة يجب أن يكون مدعومًا ببيانات قوية، خاصة على صعيد التضخم وسوق العمل.
وفي هذا السياق، يقول جيمس آثي، مدير المحافظ الاستثمارية في “مارلبورو إنفستمنت مانجمنت”: “الفيدرالي لا يستهدف سوق الأسهم بشكل مباشر، لكنَّه لا يستطيع تجاهل موجة التراجع الأخيرة. وفي النهاية، تأثير الفيدرالي على المعنويات محدود مقارنةً بتأثير البيت الأبيض”.
ترامب والأسواق.. التأثير الأكبر يأتي من البيت الأبيض
لم تفعل إدارة ترامب الكثير لتهدئة مخاوف المستثمرين بشأن الاقتصاد؛ ففي 9 مارس، صرّح الرئيس ترامب، بأنَّ البلاد تمر “بمرحلة انتقالية”، بينما أشار وزير الخزانة سكوت بيسنت إلى أنَّ الأسواق بحاجة إلى “إزالة السموم”، الأمر الذي زاد الضبابية، وجعل المستثمرين أكثر قلقًا بشأن الاتجاه المستقبلي للاقتصاد الأمريكي.
على الجانب الآخر، استمرت الضغوط على السندات الأمريكية، حيث انخفض العائد على السندات لأجل عامين، وهو الأكثر تأثرًا بسياسات الفيدرالي النقدية، بنحو 60 نقطة أساس منذ يناير، ليصل إلى 3.83% هذا الشهر، وهو أدنى مستوى في أكثر من خمسة أشهر. أما مؤشر التقلبات “VIX”، الذي يقيس مدى التوتر في وول ستريت، فقد سجل أعلى مستوى له منذ أغسطس الماضي.
اطّلع أيضًا على أذونات الخزانة الأمريكية وكيفية شرائها
التضخم.. التحدي الأكبر أمام الفيدرالي
ما يزيد الأمور تعقيدًا هو استمرار التضخم عند مستويات مرتفعة نسبيًا، رغم تباطؤ ارتفاع الأسعار الاستهلاكية في فبراير، ورغم أنَّ مؤشر أسعار المنتجين أظهر بعض الاستقرار، فإنَّ المقاييس التي يعتمد عليها الاحتياطي الفيدرالي، مثل مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي (PCE)، لا تزال مرتفعة.
بل إنَّ مقياسًا رئيسيًا لتوقعات التضخم على المدى الطويل ارتفع للشهر الثالث على التوالي، ليصل إلى أعلى مستوى له منذ أكثر من ثلاثة عقود.
وتقول سارة هاوس، كبيرة الاقتصاديين في “ويلز فارجو”: “سنسمع رسالة مفادها أنَّ الأمور لا تزال متماسكة، وأنَّ الفيدرالي يحتفظ بخياراته مفتوحة، لكنَّه لن يقدم ضمانات بالتدخل الفوري”.
ماذا لو واجه الاقتصاد الأمريكي تباطؤًا حادًا؟
التحدي الأكبر الذي يواجه الفيدرالي هو كيفية التعامل مع سيناريو ضعف الاقتصاد دون فقدان السيطرة على التضخم. ووفقًا لماثيو لوزيتي، كبير الاقتصاديين في “دويتشه بنك”، فإنَّ الفيدرالي لن يتدخل إلَّا إذا ظهرت علامات واضحة على تراجع سوق العمل، مثل انخفاض معدلات التوظيف أو ارتفاع معدلات البطالة.
ويضيف لوزيتي: “هناك قدر كبير من عدم اليقين؛ فعلى الرغم من أنّ البيانات الاقتصادية قد تبدو قوية، إلا أنّ الفيدرالي في الحقيقة سيتَّخذ موقف الانتظار والترقب قبل أيِّ تدخل”.
هذا الموقف الحذر يعكسه أيضًا استطلاع أجرته “بلومبرج”، حيث توقع ثلثا الاقتصاديين أن يُبقي الفيدرالي على أسعار الفائدة دون تغيير، حتى في حال تباطؤ الاقتصاد، طالما أنَّ التضخم لا يزال فوق الهدف البالغ 2%.
هل تزيد سياسات ترامب الضغوط على الفيدرالي؟
هناك مخاوف من أن تؤدي سياسات ترامب الأخرى، مثل التخفيضات الضريبية وإلغاء القيود التنظيمية، إلى تحفيز الاقتصاد على المدى القصير، لكنَّها قد ترفع التضخم في الوقت نفسه.
هذا السيناريو سيجعل مهمة الفيدرالي أكثر تعقيدًا، حيث سيجد نفسه بين خيارين صعبين: إما رفع الفائدة مجددًا لكبح التضخم، أو إبقائها مستقرة ومواجهة احتمالات تراجع النمو.
باول كان واضحًا بشأن موقفه من هذا الأمر، حيث قال في تصريح له خلال حدث في نيويورك هذا الشهر: “على الرغم من مستويات عدم اليقين المرتفعة، لا يزال الاقتصاد الأمريكي في وضع جيد. لسنا في عجلة من أمرنا، ونحن في وضع يسمح لنا بالانتظار للحصول على مزيد من الوضوح”.
قد يهمّك أيضًا: ماذا يريد ترامب من سياسات التصعيد ثم التراجع تجاه كندا
الميزانية العمومية.. هل يوقف الفيدرالي التشديد الكمي؟
إلى جانب قرار الفائدة، يراقب المستثمرون من كثب أي تلميحات حول خطط الفيدرالي المتعلقة بتخفيض ميزانيته العمومية، وهي العملية المعروفة بـ”التشديد الكمي”.
فقد كشفت مَحاضر اجتماع يناير أنَّ صانعي السياسة ناقشوا احتمال إبطاء أو إيقاف هذه العملية، خاصة مع استمرار الخلافات في الكونجرس حول “سقف الدين الحكومي”.
يقول بليك جوين، رئيس استراتيجيات أسعار الفائدة الأمريكية في “آر بي سي كابيتال ماركتس”: “الحجة لصالح وقف التشديد الكمي في مارس تتمثل في أنَّ الفيدرالي تحدَّث عن ذلك بالفعل. فلماذا لا يتخذ القرار الآن؟ يمكنهم وقفه مؤقتًا ثم استئنافه لاحقًا”.
الأسواق تترقب إشارة واضحة
يجد الاحتياطي الفيدرالي نفسه في وضع حرج، فهو يريد التأكيد على استعداده لدعم الاقتصاد عند الحاجة، لكنه لا يريد تقديم التزامات قد تُفهم بشكل خاطئ وتؤدي إلى تقلبات جديدة في الأسواق.
المستثمرون من جهتهم، ينتظرون إشارات أكثر وضوحًا، خاصة في ظل حالة عدم اليقين التي فرضتها السياسات التجارية والإجراءات المالية لإدارة ترامب.
ما هو مؤكد، أنَّ اجتماع الفيدرالي القادم لن يكون مُجَرَّد اجتماع تقني لمناقشة أسعار الفائدة، بل اختبارًا حقيقيًا لقدرة باول على طمأنة الأسواق دون تقديم وعود قد يندم عليها لاحقًا.
اطّلع على توقُّعات الاقتصاد الأمريكي في 2025.. هل يتجه نحو الركود أم يتعافى ببطء؟