من نيكسون إلى ترامب.. الدولار يدفع الثمن
تقرير: باسل محمود
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الاقتصاد العالمي، يتعرض الدولار الأمريكي لتقلبات حادة تعكس حجم الضغوط الجيوسياسية والمالية المحيطة به، فمنذ بداية العام 2025 شهد هبوطًا حادًا بنسبة 10.8% في أسوأ أداء نصف سنوي له منذ عام 1973، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول أسباب هذا التراجع الحاد وما إذا كان يمثل تحولًا في مسار العملة الأمريكية.
الجدير بالذكر أنّ هذا التراجع لم يكن مجرد انخفاض عابر، فقد أعاد إلى الواجهة مشاهد تاريخية تكررت مرارًا، حيث كانت للتدخلات السياسية في قرارات الاحتياطي الفيدرالي تبعات ثقيلة على قيمة الدولار؛ فكلما تدخل الرئيس الأمريكي في سياسات البنك المركزي دفع الدولار الثمن، في نمط يكشف عن العلاقة الحساسة بين الاستقلال النقدي والتوازن المالي، ويؤكد أن تقويض حيادية الفيدرالي لا يمر دون آثار عميقة على استقرار العملة الأمريكية.
تاريخ تراجع الدولار.. بداية مع نيكسون
في عام 1973، كان الدولار يشهد أوقاتًا صعبة بعد أن فكَّ ارتباطه بالذهب، حينها كان آرثر بيرنز يشغل منصب رئيس الاحتياطي الفيدرالي وكان ريتشارد نيكسون يشغل منصب الرئيس الأمريكي، فضغط نيكسون على بيرنز لخفض أسعار الفائدة بهدف دعم الاقتصاد قبل الانتخابات، فوافق بيرنز على هذا الطلب، لكن النتيجة كانت تدهورًا حادًا في قوة الدولار وتزايدًا في التضخم.
كانت تلك واحدة من أسوأ فترات الدولار الأمريكي، وذلك بعد فك ارتباط العملة بالذهب في عام 1971، حيث أصبح التذبذب في قيمة الدولار أمرًا أكثر وضوحًا؛ فالتضخم انفجر، والاقتصاد الأمريكي دخل في مرحلة من الاضطراب الشديد.
كانت تلك اللحظة نقطة تحول في التاريخ المالي، إذ أظهرت حجم التأثير الذي قد يحدثه تدخل الرئيس الأمريكي في سياسات الاحتياطي الفيدرالي.
اقرأ المزيد: من يقود تراجع الدولار.. الفيدرالي أم ترامب أم الاقتصاد العالمي؟
ريغان و”اتفاقية بلازا”.. التدخل السياسي المتكرر
بعدها في عام 1985، وفي عهد الرئيس رونالد ريغان، كان الدولار قويًا، لكن القوة الزائدة للعملة الأمريكية بدأت تؤثر سلبًا على الصادرات الأمريكية، فكانت ضربة قوية للاقتصاد الأمريكي.
ومن هنا جاء التحرك السياسي الكبير، حيث جمع ريغان حلفاءه من فرنسا وألمانيا واليابان وبريطانيا، وأدى ذلك إلى توقيع اتفاقية “بلازا”، التي سعت إلى خفض قيمة الدولار بشكل منسق.
خلال عامين فقط، شهد الدولار انهيارًا بنسبة 50% أمام الين الياباني والمارك الألماني، وذلك كنتيجة مباشرة لهذا الضغط السياسي الموجه من قبل الرئيس ريغان.
هذا التلاعب في قيمة العملة كان يعكس حاجة الولايات المتحدة للحفاظ على ميزان تجاري مناسب، لكنه في الوقت نفسه أضعف الدولار بشكل كبير، مما دفع العديد من الاقتصاديين والمستثمرين إلى إعادة تقييم استقرار الدولار الأمريكي في النظام المالي العالمي.
ترامب.. الهجوم العلني على الفيدرالي
اليوم في ظل رئاسة دونالد ترمب يعود نفس السيناريو مرة أخرى، ففي الوقت الذي يسعى فيه الرئيس إلى تعزيز الاقتصاد الأمريكي، يهاجم الفيدرالي علنًا مطالبًا بتخفيض أسعار الفائدة، علمًا أنّه صرَّح في العديد من المناسبات بأن الدولار القوي يضر بتنافسية الاقتصاد الأمريكي، وهو ما يضعه في نفس المسار الذي اتبعه أسلافه.
من خلال هذا الضغط العلني، بدأت الأسواق تأخذ الرسالة على محمل الجد، وبدأ الدولار في الانخفاض مرة أخرى؛ إذ إنّ التوترات التجارية والسياسية التي خلقها ترمب مع حلفائه التجاريين دفعت الأسواق إلى التشكيك في الاستقرار النسبي للعملة الأمريكية.
موضوع ذو صلة: البنوك المركزية تخطط لزيادة احتياطيات الذهب وتقليص حيازاتها من الدولار
المعادلة نفسها تتكرر.. الضغط السياسي على الفيدرالي
من نيكسون إلى ريغان، وصولاً إلى ترامب، نجد أن المعادلة نفسها تتكرر كل مرة، تدخل سياسي مباشر من قبل الرئيس الأمريكي في قرارات الاحتياطي الفيدرالي يثير حالة من الاضطراب في الأسواق المالية ويؤدي إلى تراجع الدولار.
هذه التدخلات، التي تنوعت بين دوافع نمو الاقتصاد، أو الحفاظ على التنافسية التجارية، أو ما أُطلق عليه “أمريكا أولاً”، أسهمت في تضييق الخناق على قوة الدولار؛ فكلما تدخل الرئيس في السياسة النقدية للولايات المتحدة، أصبح الدولار الأمريكي في حالة من الضعف النسبي، ما يعكس في النهاية تأثير الصراع بين السياسة والاقتصاد.
لقد أصبحت حقيقة أن كل تدخل سياسي يسهم في إضعاف الدولار، ولا يقتصر الأمر على أحداث فردية بل هو نمط مستمر عبر التاريخ.
الأثر النفسي والسوقي للتدخلات
التدخل السياسي في قرارات الاحتياطي الفيدرالي لا يقتصر أثره على الأرقام والإحصاءات بل يمتد ليترك انطباعًا نفسيًا عميقا على الأسواق المالية؛ فكلما تدخل رئيس أمريكي في شؤون البنك المركزي، ارتفعت حالة التوتر والقلق بين المستثمرين، مما دفعهم إلى إعادة تقييم مراكزهم الاستثمارية.
هذا التوتر النفسي -الذي ينعكس في هبوط قيمة الدولار- يرمز إلى علاقة معقدة بين السياسات الانتخابية والقرارات الاقتصادية، علاقة تتجلى في كل دورة زمنية يمر بها التاريخ.
لقد أصبح واضحًا أنَّ كل تدخل سياسي، مهما كان مدعى للصالح الوطني أو لدعم النمو، يحمل في طياته آثارا بعيدة المدى على قيمة الدولار، وبالرغم من اختلاف السياقات والأحداث تظل النتيجة النهائية هي تهديم الثقة واستنزاف القوة الشرائية للعملة.
قد يهمّك أيضًا: هل ينهار الاقتصاد الأمريكي؟ الدين العام يتجاوز 36 تريليون دولار