الصين والاتحاد الأوروبي يعززان شراكتهما لمواجهة الضغوط الأمريكية

في ظل التصاعد المتزايد للتحديات الاقتصادية العالمية الناتجة عن السياسات الحمائية التي تنتهجها الولايات المتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب، شرعت الصين والاتحاد الأوروبي في تكثيف تعاونهما الاستراتيجي لمواجهة تداعيات هذه التوجهات؛ فمنذ اعتماد واشنطن سياسة فرض الرسوم الجمركية تحت شعار حماية الاقتصاد الوطني، باتت حركة التجارة الدولية عرضة لاضطرابات متسارعة ألقت بظلالها على الاقتصادات الكبرى.

وفي هذا السياق، أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ أهمية ترسيخ أُسس التعاون بين بكين وبروكسل، واعتبره خطوة محورية للتعامل مع التحديات الاقتصادية الراهنة. وأوضح شي أن بلاده ترى في الاتحاد الأوروبي شريكًا استراتيجيًا في دعم النظام الدولي القائم على تعددية الأطراف، والحفاظ على توازن القوى في مواجهة ما وصفه بـ”التنمر الأحادي” الذي يهدد بنية النظام العالمي ويقوّض استقراره.

وشدَّد الرئيس الصيني على أن إدارة الخلافات بين الجانبين ينبغي أن تتم من خلال الحوار البنّاء والتفاهم المتبادل، لا عبر السياسات الأحادية أو الممارسات الضاغطة التي تقوض المصالح المشتركة. وأضاف أن الصين مستعدة للعمل يدًا بيد مع قادة الاتحاد الأوروبي لتعزيز الانفتاح الاقتصادي وتطوير العلاقات التجارية، بما يسهم في استقرار الأسواق العالمية ويخدم التنمية المتوازنة.

وفي تأكيد على التزام بلاده بالقواعد الدولية، أشار شي جين بينغ إلى أن الشراكة بين الصين والاتحاد الأوروبي يجب أن تكون نموذجًا لاحترام سيادة الدول ومصالحها المشروعة، بعيدًا عن فرض الإملاءات أو استخدام أدوات الضغط.

وفي إطار إحياء الذكرى الخمسين لإقامة العلاقات بين الطرفين، رحبت بكين بزيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، ورئيس المجلس الأوروبي أنتونيو كوستا، في خطوة اعتُبرت رمزية ومؤثرة على صعيد تعزيز الروابط الثنائية.

من جانبه، صرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، لين جيان، بأن بكين تتطلع إلى تعميق الحوار مع الاتحاد الأوروبي، وتوسيع مجالات التعاون لا سيما في قطاعات التنمية المستدامة والاقتصاد والتجارة، بما يعزز من قدرة الطرفين على مواجهة التحديات العالمية بشكل مشترك.

رفع العقوبات الصينية.. خطوة نحو تعزيز الحوار

تزامنت هذه التصريحات مع قرار الصين برفع العقوبات التي كانت قد فرضتها على خمسة من أعضاء البرلمان الأوروبي، وذلك على خلفية مسألة حقوق الإنسان المتعلقة بمعاملة أقلية الإيغور في الصين.

واعتبرت بكين أن هذه العقوبات كانت خطوة مؤقتة تهدف إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، كما عبرت عن تقديرها الكبير للعلاقات مع بروكسل، مؤكدة أن هذه العلاقات تشكل عنصر استقرار هام للاقتصاد العالمي، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة.

آفاق التعاون الاقتصادي بين الصين والاتحاد الأوروبي

أكدت الدكتورة شيماء وجيه، أستاذ الاقتصاد بالأكاديمية العربية للنقل البحري، أن العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي وبكين شهدت تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، وتحولت من مجرد تبادل تجاري تقليدي إلى شراكة استراتيجية تشمل العديد من القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا، والطاقة، والاستثمار، وتعتبر الصين حاليًا ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين نحو 900 مليار يورو في عام 2024.

وأضافت أنَّ الصين تسجّل فائضًا تجاريًا مع الاتحاد الأوروبي يُقدَّر بنحو 200 مليار يورو، ما يعكس تفوّقها في تصدير الإلكترونيات، والآلات، ومعدات الاتصالات إلى السوق الأوروبية. في المقابل، تتركز صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الصين في قطاعات مثل السيارات، والمعدات الصناعية، والمنتجات الدوائية، مما يبرز الفروقات البنيوية في هيكل التجارة بين الطرفين.

وفي ما يتعلق بالاستثمارات المباشرة، أشارت وجيه إلى أن الصين أبدت اهتمامًا متزايدًا بالاستثمار في أوروبا في السنوات الأخيرة، وخاصة في مجالات البنية التحتية والطاقة، ولفتت إلى أن استحواذ الشركات الصينية على مرافق استراتيجية مثل ميناء بيرايوس في اليونان –الذي أصبح مركزًا محوريًا في مبادرة “الحزام والطريق”– يجسّد هذا التوجه.

وتُعد هذه المبادرة أحد الأعمدة الرئيسية لتعزيز الترابط الاقتصادي بين بكين وبروكسل، حيث تسعى الصين إلى توسيع استثماراتها في الموانئ الأوروبية وإنشاء شبكة لوجستية متكاملة من الطرق وسكك الحديد لدعم حركة التجارة الدولية.

قد يهمك أيضًا: كيف تؤثر الحرب التجارية على استثمارات الصين في السندات الأمريكية؟

التحديات التي تواجه العلاقات الاقتصادية بين الصين والاتحاد الأوروبي

رغم التقدّم الملحوظ في العلاقات الاقتصادية بين الصين والاتحاد الأوروبي، لا تزال هذه الشراكة تواجه مجموعة من التحديات الجوهرية. فقد عبّر الاتحاد الأوروبي مرارًا عن قلقه من اتساع العجز التجاري مع الصين، وهو ما دفع المفوضية الأوروبية إلى المطالبة بتطبيق مبدأ “المعاملة بالمثل” لضمان فرص متكافئة للشركات الأوروبية داخل السوق الصينية، لا سيما في القطاعات عالية التقنية مثل الإلكترونيات والتكنولوجيا المتقدمة.

من جانب آخر، تُعد قضية الإغراق التجاري من أبرز الملفات الشائكة في العلاقة بين الجانبين؛ إذ يدرس الاتحاد الأوروبي فرض تدابير وقائية لحماية صناعاته من المنافسة غير العادلة، خاصة في قطاعات حساسة مثل الألمنيوم والصلب التي شهدت تدفقًا متزايدًا للواردات الصينية بأسعار منخفضة تضر بالمنتجين المحليين.

“الحزام والطريق”: منصة للتكامل أم مدخل للهيمنة؟

تُعد مبادرة “الحزام والطريق”، التي أطلقتها الصين، أحد أبرز أدوات بكين لتوسيع نفوذها الاقتصادي في القارة الأوروبية، إذ تهدف من خلالها إلى تعزيز الاستثمارات في البنى التحتية، وإنشاء شبكة مترابطة من الطرق وسكك الحديد، بما يسهم في تسهيل حركة التجارة بين آسيا وأوروبا.

غير أنَّ هذه المبادرة أثارت تباينًا في المواقف داخل الاتحاد الأوروبي؛ ففي حين رحّبت دول مثل اليونان وإيطاليا بالمشروعات الصينية بوصفها فرصة لتعزيز النمو وتطوير البنى التحتية، أعربت دول أخرى مثل ألمانيا وفرنسا عن قلقها من التأثيرات الجيوسياسية المحتملة، لا سيما ما يتعلق بهيمنة الصين على مفاصل النقل والتجارة في أوروبا.

اتفاق الاستثمار بين التعليق والتجاذب السياسي

فيما يتعلق بالإطار المؤسسي للتعاون، يبرز اتفاق الاستثمار الشامل (CAI) –الذي وُقّع مبدئيًا بين الصين والاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2020– كإحدى أهم الخطوات نحو تنظيم العلاقة الاقتصادية؛ فقد كان الاتفاق يهدف إلى فتح السوق الصينية أمام الشركات الأوروبية، وتعزيز الشفافية والضمانات القانونية.

لكنّ تصاعد التوترات السياسية، خصوصًا بعد فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على بكين على خلفية قضايا حقوق الإنسان، أدى إلى تجميد إجراءات التصديق على الاتفاق، مما ألقى بظلال من الشك على مستقبل تنفيذه، وطرح تساؤلات حول إمكانية فصل الاقتصاد عن الاعتبارات الجيوسياسية في علاقات الطرفين.

تأثير التوترات الأمريكية الصينية

أكَّدت الدكتورة شيماء وجيه أن التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وبكين تلقي بظلالها على العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين؛ فبينما يمارس البيت الأبيض ضغوطًا متزايدة على بروكسل للحد من التعاون الاقتصادي مع الصين، يهدف الاتحاد الأوروبي إلى الحفاظ على توازنه الاستراتيجي بين القوتين العظميين، وعدم التضحية بمصالحه الاقتصادية مع بكين.

واختتمت وجيه تصريحاتها بالتأكيد على أنَّ المرحلة المقبلة ستحدد شكل العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي والصين، خاصة مع استمرار التوترات الجيوسياسية المتزايدة.

ومع تزايد الضغوط الأمريكية، يبقى السؤال الأهم: هل سيستطيع الاتحاد الأوروبي الحفاظ على الشراكة الاقتصادية مع بكين؟ أم أنه سيكون مضطراً إلى تعديل استراتيجياته الاقتصادية لتجنب المواجهة مع الولايات المتحدة؟ هذا التحدي سيشكل معالم المرحلة القادمة من السياسة الاقتصادية العالمية.

اقرأ أيضًا: ترامب يُشعل سباق التعدين في أعماق البحار ضد الصين

تابعنا على صفحتنا على فيسبوك

تابعنا أيضًا على صفحتنا على إنستغرام

أخبار ذات صلة