تقرير: باسل محمود
في واحدة من أكثر المناطق قسوة على وجه الأرض، يتشكل أمام أنظار العالم سباق استراتيجي محموم بين القوى الكبرى، فالقطب الشمالي بمساحته البالغة نحو 14 مليون كيلومتر مربع يتحول تدريجيًا من منطقة منسية إلى مسرح للثروة والنفوذ، حيث يكشف ذوبان الجليد بفعل التحول المناخي عن كنوز مدفونة من النفط والغاز، والمعادن الحيوية للصناعات الدفاعية والرقمية.
لم تعد القضية محصورة في معارك الدبلوماسية أو العقوبات الاقتصادية، فقد تحول القطب الشمالي إلى نقطة اشتباك فعلية على النفوذ، والتفوق الجيوسياسي، والسيطرة على الموارد النادرة.
أمريكا تستفيق متأخرة أمام التفوق الروسي
بعد عقود من الإهمال النسبي، تسعى الولايات المتحدة حاليًا إلى استعادة زمام المبادرة في القطب الشمالي، إذ إنّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي طالما نظرت إلى المنطقة من زاوية “الفرصة المؤجلة”، منحت عقدًا ضخمًا بقيمة 951 مليون دولار لشركة “بولينغر” لبناء السفن، لتطوير كاسحات جليد ثقيلة ضمن مشروع الأمن القطبي.
علمًا أنّ الهدف المعلن هو بناء أسطول من 40 كاسحة جليد، وهي قفزة نوعية مقارنة بالأسطول الأمريكي الحالي الذي يقتصر على سفينتين فقط. في المقابل، تمتلك روسيا أسطولًا مهيبًا من 8 كاسحات جليد تعمل بالطاقة النووية، وأكثر من 60 سفينة أخرى قادرة على اختراق الجليد القطبي، إلى جانب حضور عسكري وبُنية تحتية تتجاوز حدود الجغرافيا.
هذه المعادلة تُظهر بوضوح أنَّ موسكو تفوقت استراتيجيًا في الشمال، ليس فقط من حيث العتاد بل أيضًا من حيث التموضع الجيوسياسي.
اقرأ المزيد حول طموحات ترامب المتعلقة بجزيرة غرينلاند وقناة بنما
ثروات طبيعية تحت الجليد تغير موازين الطاقة
الرهان الجيوسياسي في القطب الشمالي ليس محصورًا بالممرات البحرية، بل يرتكز على الثروات الطبيعية الكامنة في المنطقة، حيث تُشير بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية إلى أن القطب الشمالي يحتوي على نحو 1670 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، و90 مليار برميل من النفط، أي ما يعادل 13% من احتياطات العالم غير المكتشفة من النفط، و30% من الغاز الطبيعي.
أضف إلى ذلك ثروات معدنية هائلة مثل التيتانيوم، والبلاديوم، واليورانيوم، والليثيوم، تستخدم في الصناعات التكنولوجية والعسكرية. وتكشف مسوحات حديثة في جزيرة غرينلاند، عن وجود رواسب كبرى لـ43 معدنًا حيويًا، معظمها مُصنّف ضمن قائمة المواد الاستراتيجية الأمريكية.
غرينلاند.. مفتاح الصراع الجديد
لم تَعُد غرينلاند -أكبر جزيرة في العالم- مجرد نقطة على الخريطة، بل تحوّلت إلى “نقطة ارتكاز” في التنافس القطبي، فقد أثارت إدارة ترامب الجدل عالميًا عندما طرحت فكرة شراء الجزيرة من الدنمارك، في إشارة واضحة إلى الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية للموقع.
ويُذكر أنَّ هذه الجزيرة تقع على طريقين ملاحيين رئيسيين، وتضم احتياطيات تُقدّر بـ42 مليون طن من المعادن النادرة، أي ما يزيد بـ120 مرة عن إجمالي الإنتاج العالمي لعام 2023، لكن الاهتمام الأمريكي لا يقتصر على الثروات، بل يشمل أيضًا بعدًا استراتيجيًا يتمثل في نشر أنظمة الإنذار المبكر ضد الهجمات النووية، والسيطرة على طرق الشحن الدولية، وتعزيز حضور الناتو في الشمال.
الصين تدخل السباق عبر طريق الحرير القطبي
في المقابل، تسعى الصين -رغم بُعدها الجغرافي- إلى الدخول بقوة في السباق القطبي، فقد أعلنت نفسها رسميًا “دولة قريبة من القطب الشمالي” في عام 2018، وتبنت استراتيجية “طريق الحرير القطبي” الذي يربط آسيا بأوروبا وأمريكا الشمالية عبر الممرات القطبية.
ورغم أنَّ الصين لا تملك أي شواطئ على المحيط المتجمد الشمالي، إلا أنها تستثمر في مشاريع التعدين والصيد والنقل في آيسلندا وغرينلاند وروسيا.
هذا التحالف المتنامي بين موسكو وبكين في القطب الشمالي بات مصدر قلق عميق لواشنطن، لا سيما مع تزايد التنسيق في مجالات الطاقة والموارد الطبيعية والنقل البحري، ما دفع البنتاغون مؤخرا إلى إعادة صياغة استراتيجيته الخاصة بالمنطقة.
قد يهمّك أيضًا: تفاصيل الاتفاق التجاري بين أمريكا والصين وتأثيره على الاقتصاد العالمي
استثمارات روسية قياسية في البنية التحتية
منذ عام 2014 شرعت روسيا في تنفيذ استراتيجية طويلة الأمد لبسط هيمنتها على القطب الشمالي، إذ خصصت مئات المليارات من الدولارات لمشاريع التنقيب والنقل، أبرزها مشروع “فوستوك أويل” الذي يتوقّع أن ينتج أكثر من 50 مليار برميل من النفط، ومشروع “Arctic LNG 2” لشركة نوفاتيك الذي يستهدف رفع الطاقة التصديرية للغاز المسال إلى 100 مليون طن سنويًا بحلول 2033.
وقد شحنت روسيا بالفعل 38 مليون طن من البضائع عبر طريق البحر الشمالي في عام 2024، بزيادة تقارب عشرة أضعاف عن عقد مضى، مما يؤكد نجاح استراتيجيتها القائمة على تعزيز الاستقلالية الاقتصادية والتموضع الجيوسياسي في الشمال المتجمّد.
تحديات المناخ والبنية التحتية والعمالة
رغم الفرص الهائلة، فإن التحديات اللوجستية والبيئية ما تزال تفرض نفسها بقوة؛ إذ إن ذوبان الجليد، وإن كان يسهم في تسهيل عمليات التنقيب، إلا أنه في الوقت ذاته يفرض ظروفًا مناخية قاسية تجعل من المنطقة بيئة غير ملائمة للسكن أو العمل على المدى الطويل.
علاوة على ذلك، فإنّ غياب الشمس لفترات طويلة، والانخفاض الحاد في درجات الحرارة، يحتّمان رفع الأجور بشكل كبير لجذب الأيدي العاملة، كما أنَّ المياه الضحلة المليئة بالجليد تعيق الملاحة، وتبطئ عمليات النقل، وتعقّد أنظمة الدعم اللوجستي.
هل يصبح القطب الشمالي محور النظام العالمي الجديد؟
تظهر مؤشرات متعددة أن القطب الشمالي سيحتل مركزًا متقدمًا في جدول أعمال الأمن والطاقة العالميين خلال العقود المقبلة، لكن السؤال الأبرز يبقى: من سيضع قواعد اللعبة في منطقة لا تخضع لسيادة واضحة؟
هل تُشكل المعاهدات الدولية مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) رادعًا كافيًا، أم أنَّ من يملك القوة البحرية والمالية سيكون هو من يُحدّد اتجاه البوصلة؟
الواقع أن القطب الشمالي يتحول تدريجيا إلى مرآة تعكس النظام العالمي الجديد، حيث تتقاطع المصالح الاستراتيجية بالاقتصادية، ويتداخل الاستثمار بالردع العسكري، في مشهد يعيد تعريف الجغرافيا السياسية من تحت الجليد.
اقرأ أيضًا: كنوز ضخمة من الثروات الطبيعية مدفونة في إفريقيا