تُمثّل الممرات المائية نقاط ارتكاز استراتيجية في منظومة التجارة الدولية، فهي ليست مجرد ممرات ضيقة تفصل بين يابستين، بل مفاصل حيوية تربط بين المحيطات والبحار، وتوفّر مسارات مباشرة لعبور السفن بين الأسواق الكبرى حول العالم. وتزداد أهمية هذه الممرات حين يتعلق الأمر بتدفقات الطاقة وحركة النقل البحري، إذ تمر عبرها النسبة الأكبر من صادرات النفط والغاز والسلع التجارية.
ومن أبرز هذه المعابر ذات الوزن الجيوسياسي والاقتصادي: مضيق هرمز، ومضيق باب المندب، وقناة السويس، ومضيق ملقا، حيث يُشكّل كل منها شريانًا حيويًا في حركة التجارة العالمية، وأي اختلال في استقرارها ينعكس فورًا على الأسواق وسلاسل الإمداد الدولية، وعندما تندلع الحروب أو تشتد النزاعات السياسية والعسكرية تتحول هذه المضايق إلى أدوات ضغط جيوسياسية، وتنتقل من كونها معابر تجارية إلى بؤر توتر قد تهدد استقرار الأسواق العالمية.
تهديد أمن المضائق وتأثيره على أسعار الطاقة
الخطورة في اعتبار الممرات المائية أداة ضغط جيوسياسي تكمن في إمكانية استخدامها من قبل بعض الأطراف كوسيلة لتعطيل الإمدادات الحيوية، مثل النفط والغاز، أو ذريعة لفرض إجراءات عسكرية أو حصار بحري على بعض الدول، كما هو الحال في مضيق هرمز الذي يمر من خلاله نحو 20% من إمدادات النفط على مستوى العالم، مما يجعل أي اضطراب فيه مصدر قلق عالمي.
علاوة على ذلك، تؤدي المخاطر الأمنية الناتجة عن التوترات في المضايق إلى ارتفاع تكاليف الشحن البحري والتأمين، وهو ما ينعكس على أسعار السلع والخدمات. كما أن تهديد هذه الممرات يؤدي إلى تقلبات حادة في أسعار الطاقة عالميًا، بل ويمتد تأثيرها إلى الأمن الغذائي، خاصة في الدول التي تعتمد بشكل كبير على واردات السلع الأساسية عبر البحر.
سُبل حماية المضائق الحيوية
مع اشتعال التوترات الجيوسياسية، تبرز الحاجة إلى تأمين الممرات المائية وحمايتها من أن تتحول إلى أدوات ابتزاز أو تعطيل سياسي، ويتم ذلك من خلال عدة مسارات:
- تعزيز الضمانات العسكرية الدولية، مثل تواجد قوات بحرية متعددة الجنسيات تعمل على حماية الملاحة، كما هو الحال مع بعض القوات الدولية المنتشرة في الخليج العربي لحماية الملاحة في مضيق هرمز.
- التعاون بين الدول الإقليمية المطلة على هذه المضايق، والتي يمكن أن تشكل فيما بينها تحالفات أمنية مشتركة لضمان السيطرة على الوضع ومنع الانفلات، مثلما هو الحال في التنسيق القائم بين المملكة العربية السعودية ومصر واليمن حول تأمين مضيق باب المندب.
- تنويع طرق الإمداد من خلال تطوير البنية التحتية لخطوط أنابيب النفط والغاز العابرة للدول، بما يقلل من الاعتماد الكلي على المضايق البحرية، ويخلق بدائل يمكن اللجوء إليها في حال إغلاق أو تهديد أحد هذه الممرات.
- توظيف التكنولوجيا الحديثة في هذا المجال، وذلك عبر استخدام أنظمة الإنذار المبكر، والطائرات المسيّرة، وتقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد التهديدات الأمنية المحتملة، والتعامل معها قبل تفاقمها.
الإطار القانوني لحماية الملاحة الدولية
تلعب القوانين الدولية دورًا محوريًا في تنظيم استخدام المضائق البحرية وحماية حرية الملاحة فيها، وتعد اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 أبرز الأطر القانونية التي تنص على حق جميع الدول في “العبور البريء” من المضايق الدولية دون عرقلة أو تهديد من الدول الساحلية، طالما أن هذا المرور لا يمثل تهديدًا أمنيًا، كما أنّها تمنع أي دولة من استخدام القوة أو التهديد باستخدامها ضد السفن التجارية التي تمر عبر هذه المضايق.
بالإضافة إلى ذلك، هناك اتفاقية القسطنطينية الموقعة عام 1888، والتي تؤكد على حرية الملاحة في قناة السويس، سواء في وقت السلم أو الحرب، لجميع السفن التجارية دون تمييز.
كما أن منظمة الملاحة البحرية الدولية (IMO) تضع قواعد وإرشادات لحماية السفن من الهجمات والقرصنة أثناء مرورها في الممرات المائية الحيوية، ما يعزز من الإطار الدولي الضامن لسلامة هذه الممرات.
اقرأ أيضًا: كيف هزت أزمة الشحن البحري التجارة العالمية؟
تأثير تهديد الممرات المائية على أسواق المال
من جهتها، أشارت حنان رمسيس، خبيرة أسواق المال، إلى التأثير الفوري لهذه التوترات على الأسواق المالية، مؤكدة أن البورصات في جميع أنحاء العالم، بما فيها الخليج ومصر، تتأرجح بين الصعود والانخفاض مع كل تهديد عسكري أو سياسي. وأضافت أن إغلاق أحد المضائق، أو حتى تهديد الملاحة فيها، سيؤدي إلى توقف جزئي في حركة السفن، وحدوث اضطراب في إمدادات المصانع، مما سينعكس بزيادات فورية في تكاليف الإنتاج والنقل.
كما أوضحت الخبيرة الاقتصادية أنَّ المضائق تعتبر نقاطًا ثابتة لتصاعد القلق، ورغم أنها تقع في منطقة معينة إلا أن تأثيراتها تتجاوزها وتطال الاقتصاد العالمي بأسره، بما يشمل دول شرق آسيا وأوروبا، وأرجعت ذلك إلى أن أي إغلاق أو تهديد لتلك المسارات قد يؤدي إلى موجة من عمليات البيع بسبب ضعف الشهية للمخاطرة، مما ينال من مستويات السيولة ويضعف معدلات الاستثمار.
وأضافت أن الأزمات ذات الطبيعة البحرية لا تقتصر على مساحة جغرافية، بل تؤثر على كل دول العالم، خصوصًا تلك المعتمدة على استيراد الطاقة أو تصدير المواد الخام.
المضائق المائية.. ورقة ضغط وقت الأزمات
حذَّر الدكتور محمد الشوربجي، الخبير الاقتصادي، من أنَّ استخدام المضائق البحرية كورقة ضغط في الأزمات قد يؤدي إلى صدام اقتصادي وتجاري عالمي شامل، مؤكدًا أن الضغوط المحتملة على السوق ستطال الجميع، خاصة مع انتقال الصراع إلى المشهد البحري، فالمضيق لا يمثل مجرد بحر ضيق، بل هو شريان رئيسي لصادرات الطاقة من الخليج وغيرها، ويمر عبره ربع تجارة النفط العالمية.
وذكر الشوربجي أنَّ البرلمان الإيراني كان قد أقر اقتراحًا بإغلاق أو تهديد الملاحة عبر مضائق استراتيجية، كاستراتيجية متقدمة للرد على الضغوط الأمريكية، مشيرًا إلى أن أي خطوة من هذا القبيل تعني إعلان حرب اقتصادي مباشر، مما سيدفع الدول الغربية والولايات المتحدة إلى تشكيل تكتلات إقليمية لمواجهة هذا التصعيد. وأضاف أن هذا التحول قد يؤدي إلى انهيار اقتصادي داخلي سريع في إيران بسبب ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات لا يمكن لأي اقتصاد، حتى اقتصادها تحملها.
أما الدكتور ناصر عبد المهيمن، الخبير الاقتصادي، فقد صرّح بأنَّ المضائق البحرية باتت تمثّل عنصرًا حساسًا في معادلة الأمن الاقتصادي العالمي، خاصة في ظل التصعيد المتسارع بمنطقة الخليج، مؤكّدًا أن المضائق البحرية، سواء كان هرمز أو باب المندب أو حتى قناة السويس، ليست مجرد ممرات مائية، بل شرايين حيوية تضخ من خلالها الطاقة والبضائع إلى أسواق العالم.
كما أشار عبد المهيمن إلى أن مضيق هرمز على سبيل المثال، يربط الخليج العربي ببحر العرب عبر خليج عمان، ويتميز بقدرته على استيعاب أكبر ناقلات النفط في العالم، إذ يبلغ عرضه نحو 30 كيلومترًا فقط عند أضيق نقطة، وهو الطريق الرئيسي الذي تمر من خلاله صادرات الطاقة من الخليج نحو الأسواق العالمية.
موضوع ذو صلة: محطة جاسك.. ورقة إيران الجيوسياسية لتجاوز مضيق هرمز
الدول الأكثر تأثرًا
بحسب عبد المهيمن، الدول الأكثر تأثرًا بأي اضطراب في هذه المضائق هي بطبيعة الحال الدول المطلة عليها، وعلى رأسها السعودية والإمارات والكويت وقطر والبحرين والعراق وإيران نفسها. ورغم أن السعودية تمتلك خطوط أنابيب بديلة تنقل النفط إلى البحر الأحمر، وأنّ الإمارات تستفيد من خط أنابيب الفجيرة، فإن دولًا مثل العراق وقطر والكويت تعتمد كليًا على المضايق البحرية في تصدير النفط، ولا تملك بدائل حقيقية وفعالة في الوقت الراهن.
وأضاف الخبير أنَّ من بين أكبر المتضررين كذلك الدول الآسيوية الكبرى المستوردة للطاقة، وفي مقدمتها الصين التي استوردت 5.4 مليون برميل يوميًا عبر المضايق البحرية في الربع الأول من العام الجاري، تليها الهند وكوريا الجنوبية بنحو 2.1 و1.7 مليون برميل يوميًا على التوالي، بينما بلغت واردات الولايات المتحدة وأوروبا من هذه المناطق نحو 400 إلى 500 ألف برميل يوميًا فقط، ما يضع القارة الآسيوية في مقدمة الصفوف المعرضة للصدمة.
كما أكد عبد المهيمن أن دولًا مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان تعتمد بشكل كبير على النفط الإيراني، خصوصًا بعد توقف الإمدادات الروسية، إذ تستورد الدول الأوروبية مجتمعة نحو 450 ألف برميل نفط يوميًا من إيران، ما يعادل نحو 18% من إجمالي صادراتها، وبالتالي فإن أي إغلاق أو اضطراب في هذه المضائق سيمثل تهديدًا مباشرًا لأمن الطاقة الأوروبي.
الغاز القطري وأمن الطاقة الأوروبي
في السياق ذاته، تناول عبد المهيمن مسألة الغاز الطبيعي، موضحًا أن قطر التي تمر صادراتها كذلك عبر مضيق هرمز وبحر العرب تعد من أكبر مورّدي الغاز الطبيعي المسال لأوروبا، حيث بلغت صادراتها للاتحاد الأوروبي في عام 2023 حوالي 15.5 مليار متر مكعب.
وتتوزع هذه الصادرات بين إيطاليا (6.8 مليار م³)، وبلجيكا (4.3 مليار م³)، وفرنسا (2.3 مليار م³)، الأمر الذي يجعل قطر شريكًا استراتيجيًا في أمن الطاقة الأوروبي، لا سيما في ظل تراجع الاعتماد على الغاز الروسي.
وقد لفت الخبير إلى أن قطر سبق أن لوّحت بإمكانية تعليق صادراتها إلى أوروبا في حال تطبيق قانون أوروبي جديد يتعلق بالقيود البيئية والعمالة القسرية، مما يزيد من هشاشة التوازن في سوق الغاز العالمي.
وأوضح أن هذه الوقائع تكشف إلى أي مدى أصبحت المضائق البحرية نقطة تقاطع بين الاقتصاد والسياسة، وقد يتم استغلالها كورقة ضغط ليس فقط في النزاعات المسلحة، بل حتى في الخلافات التجارية والدبلوماسية.
قد يهمّك أيضًا: الطلب على الغاز يرفع تصنيف قطر
سجل إيران وتحركاتها في المضائق
فيما يخص سجل إيران السابق، أشار الدكتور عبد المهيمن إلى أن الجمهورية الإسلامية لديها تاريخ من التدخل في حركة الملاحة عبر الخليج، حيث قامت في أبريل 2024 باحتجاز سفينة حاويات مرتبطة بإسرائيل قرب مضيق هرمز.
كما احتجزت ناقلة أمريكية في أبريل 2023، وناقلتين يونانيتين في مايو 2022، مما يعكس توترًا دائمًا في العلاقة بين إيران والمجتمع الدولي فيما يتعلق بحرية الملاحة.
آثار تعطيل حركة المرور في المضائق
شدّد الخبير على أنَّ أي تعطيل شامل لحركة المرور في هذه المضايق سيُحدث زلزالًا اقتصاديًا عالميًا، تبدأ آثاره من ارتفاع فوري في أسعار النفط، مرورًا بزيادة كلفة الإنتاج والنقل، وصولًا إلى تعثر سلاسل الإمداد، وبالتالي عودة الضغوط التضخمية التي كافحت الدول الكبرى لسنوات من أجل احتوائها.
وفي ختام تصريحاته، دعا الدكتور ناصر عبد المهيمن إلى التحرك الدولي الجاد لضمان حرية الملاحة في المضايق الاستراتيجية، وذلك من خلال توحيد المواقف وتفعيل الأطر القانونية الدولية مثل اتفاقية قانون البحار، وعدم السماح باستخدام هذه الممرات الحيوية كورقة مساومة في الصراعات السياسية والعسكرية.
علاوة على ذلك، شدَّد على فكرة أنَّ المضايق ليست ملكًا لدولة، بل شريان حياة للاقتصاد العالمي بأكمله، وأن المساس بها يعني زعزعة استقرار النظام الاقتصادي الدولي في وقت يعاني فيه من أزمات أصلًا.
اقرأ أيضًا: إغلاق مضيق هرمز يهدد أمن الطاقة العالمي