تصاعد التوتر التجاري بين أمريكا والصين: هل نشهد حربًا تجارية جديدة؟

تقرير: باسل محمود

في صباح متوتر من شتاء 2024، كانت أعين المستثمرين والمسؤولين في جميع أنحاء العالم مُتِّجهة نحو واشنطن وبكين، حيث كان العالم على وشك الدخول في فصل جديد من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وعلى الرغم من أنّ إعلان واشنطن عن فرض تعريفات جمركية جديدة على واردات صينية لم يِكُن أمرًا غير متوقع، إلا أنّه كان بمثابة إعادة إشعال للنار التي حاولت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إخمادها دون جدوى، وفق بلومبرج.

لم تتأخر بكين في الرد، فقد أعلنت عن سلسلة من الإجراءات المضادة، بما في ذلك فرض تعريفات على الطاقة والأدوات الزراعية الأمريكية، وفتح تحقيقات تستهدف شركات تكنولوجية أمريكية كبرى، لكن المفاجأة الحقيقية كانت في اختيار الشركات المستهدفة والأساليب التي استخدمتها الصين، مما جعل المراقبين يتساءلون: هل نحن أمام تصعيد قد يعيد خلط أوراق الاقتصاد العالمي؟ أم أنَّ هذه ليست سوى “طلقات تحذيرية” ضمن لعبة تفاوض كبرى؟

كيف ردّت بكين على تعريفات ترامب؟

لم يكن الردّ الصيني مجرد رد فعل غاضب، بل بدا وكأنّه خطوة محسوبة بعناية لاستهداف قطاعات محدَّدة دون الإضرار بالمصالح الاقتصادية الصينية بشكل مباشر، حيث أعلنت بكين فرض ضريبة بنسبة 15% على واردات الطاقة الأمريكية التي تقل قيمتها عن 5 مليارات دولار، ورسومًا بنسبة 10% على النفط ومعدات الزراعة، وهي سلع استراتيجية لكنَّها ليست الأكثر أهمية في العلاقات التجارية بين البلدين.

لكنَّ هذه الإجراءات لم تكن سوى البداية؛ ففي خطوة غير متوقعة، فتحت السلطات الصينية تحقيقًا بشأن انتهاكات مكافحة الاحتكار لشركة جوجل، رغم أنَّ خدمات البحث الخاصة بها محظورة في الصين منذ عام 2010.

لا يُعَدُّ استهداف “جوجل” مجرَّد إجراء قانوني، بل يحمل دلالة سياسية واضحة، فهو يشير إلى أنَّ بكين لم تعد تخشى المواجهة المباشرة مع عمالقة التكنولوجيا الأمريكية، خاصة أنَّ شركات مثل “آبل” و”مايكروسوفت” تمتلك أعمالًا ضخمة في السوق الصينية.

اقرأ أيضًا: الصين ترد على الرسوم الأمريكية برسوم مضادة

القائمة السوداء.. الصين تصعّد ضد الشركات الأمريكية

لم يَكُن التحقيق في “جوجل” سوى مقدمة لخطوات أكثر عدائية، حيث قامت بكين بتوسيع إجراءاتها من خلال وضع شركات أمريكية بارزة على “القائمة السوداء”، مما يعني فرض قيود جديدة عليها داخل الصين.

شملت القائمة “PVH Corp”، والشركة الأم لعلامتي “Calvin Klein” و”Tommy Hilfiger” التي تخضع للتحقيق بزعم مقاطعة القطن من منطقة شينجيانغ، وهي القضية التي أثارت غضب السلطات الصينية على مدار السنوات الماضية.

كما طالت العقوبات “Illumina Inc” الرائدة في تقنيات تسلسل الجينات، مما أثار تساؤلات حول تأثير هذه الإجراءات على قطاع التكنولوجيا الحيوية الأمريكي، خاصةً أنَّها تُعتبر المورد الرئيس عالميًا في هذا المجال، وقد تواجه منافسة مباشرة من شركة “BGI “Genomics الصينية.

لكن الضربة الأكثر حساسية كانت تتعلق بمعدن التنجستن، الذي يُعد أحد أهم المعادن النادرة المستخدمة في الصناعات الدفاعية والإلكترونية.

التنجستن.. سلاح استراتيجي في المعركة التجارية

لم تكتفِ بكين بذلك، بل لجأت إلى أحد أسلحتها الخفية وهو التنجستن، المعدن النادر الذي تمتلك الصين 80% من إنتاجه العالمي، ويُستخدم بشكل أساسي في الصناعات الدفاعية، خاصةً في الصواريخ الخارقة للدروع، مما يجعل أيّ قيود على تصديره تهديدًا مباشرًا للصناعات الدفاعية الأمريكية.

هذه الخطوة لم تكن مجرَّد ردّ فعل على التعريفات الأمريكية، بل كانت رسالة واضحة بأنَّ الصين قادرة على إلحاق أضرار حقيقية بسلاسل التوريد العالمية، تمامًا كما فعلت مع عناصر الأرض النادرة في السابق.

شي جين بينغ.. مناورة أم تهدئة؟

رغم أنَّ الصين ردّت بقوة، إلَا أنّ الرئيس شي جين بينغ بدا حذرًا في تصعيد المواجهة؛ فلم تشمل الإجراءات الصينية القطاعات الأكثر حساسية مثل أشباه الموصلات، ولم تفرض بكين عقوبات شاملة قد تؤثر على اقتصادها الداخلي.

يبدو أنَّ الاستراتيجية الصينية تهدف إلى إرسال رسالة تحذيرية دون الإضرار بمصالحها بشكل مفرط؛ فالاقتصاد الصيني الذي يواجه تحديات كبرى، لا يمكنه تحمل تبعات مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة.

في المقابل، فإنَّ الردّ الأمريكي لم يكن حاسمًا بعد، حيث لم تتضح بعد خطوات واشنطن للردّ على الإجراءات الصينية، وهو ما يفتح الباب أمام جولة جديدة من المفاوضات أو التصعيد.

الأسواق المالية تترقب بحذر

في الوقت الذي تتصاعد فيه التوترات التجارية، لم تتفاعل الأسواق العالمية بالذعر المتوقع، فقد ارتفع مؤشر “Hang Seng China Enterprises” بنسبة 3% بعد انخفاضه الأولي بفعل الإعلان عن التعريفات.

أما اليوان الخارجي، فقد شهد استقرارًا بعد تصحيح خسائره السابقة، فيما شهدت عملات الدول المرتبطة تجاريًا بالصين، مثل الدولار الأسترالي والنيوزيلندي، بعض التقلبات.

هذا يعني أنَّ الأسواق حتى الآن ترى هذه المواجهة على أنَّها مجرد جولة جديدة من الضغوط التفاوضية، وليست بداية لحرب اقتصادية شاملة.

قد يهمّك أيضًا: رسوم ترامب الجمركية تهدد اقتصاد الشرق الأوسط

ترامب يعود إلى المشهد.. هل نشهد تصعيدًا جديدًا؟

في واشنطن، عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى واجهة الجدل، حيث صرّح بأن التعريفات الجمركية يجب أن تظل أداة تفاوضية أساسية ضد الصين.

ويبدو أنَّ تصريحاته لم تمر مرور الكرام في بكين التي تدرك أنَّ أيَّ عودة لترامب إلى البيت الأبيض قد تعني موجة جديدة من التصعيد التجاري، وهو ما يجعل الشركات الأمريكية تتساءل عمَّا إذا كان عليها تعديل استراتيجياتها تحسُّبًا لمرحلة جديدة من المواجهة بين العملاقين.

إلى أين تتجه المواجهة؟

مع اقتراب تنفيذ التعريفات الصينية في 10 فبراير، يظل السؤال الأهم: هل ستؤدي هذه المواجهة إلى مفاوضات جديدة بين الطرفين، أم أنّنا أمام جولة جديدة من التصعيد؟ الإشارات القادمة من بكين وواشنطن تُوحي بأنَّ كلا الطرفين يُحاول قياس ردّ فعل الآخر قبل اتخاذ قرارات أكثر حسمًا.

لكن في حال قرّرت واشنطن المُضي قدمًا في مزيد من الإجراءات العقابية، فمن المرجح أن نرى تصعيدًا في قيود التصدير الصينية على المعادن النادرة، مما قد يُؤثر بشكل خطير على الصناعات التكنولوجية والدفاعية الأمريكية.

بين الرسوم الجمركية والتحقيقات والعقوبات المتبادلة، يجد الاقتصاد العالمي نفسه أمام مرحلة جديدة من عدم اليقين؛ فبينما تحاول كل من الصين وأمريكا حماية مصالحها، فإنّ التأثيرات على الأسواق وسلاسل التوريد قد تكون أكثر تعقيدًا مما يبدو.

فهل سيحسم أحد الطرفين هذه المواجهة لصالحه، أم أنّ الحرب التجارية ستظل سلاحًا تفاوضيًا طويل الأمد بين القوتين العظميين؟

حرب ترامب التجارية: “الألم للأمريكيين” قد يسبق المكاسب.. اقرأ التفاصيل!

تابعنا على صفحتنا على فيسبوك

تابعنا أيضًا على صفحتنا على إنستغرام

أخبار ذات صلة