صادرات المعادن الروسية تتجه نحو الصين .. الشريان التجاري الأول
تقرير: باسل محمود
في الوقت الذي تحاول فيه موسكو الترويج لسعيها نحو تنويع الشركاء التجاريين، تكشف البيانات التجارية للعام 2025 واقعًا مختلفًا يتمحور الاعتماد المتزايد على الصين، لا سيّما في قطاع المعادن الأساسية الذي أصبح مسارًا رئيسيًا لتحريك عجلة الاقتصاد الروسي، وسط العقوبات الغربية المتواصلة، بحسب بلومبرغ.
وقد أظهرت أرقام منصة “Trade Data Monitor”، المستندة إلى بيانات الجمارك الصينية، أنَّ صادرات روسيا من الألمنيوم إلى الصين ارتفعت بنسبة 56% خلال أول خمسة أشهر من 2025 لتصل إلى نحو مليون طن.
كما قفزت صادرات النحاس بنسبة 66%، وارتفعت واردات النيكل الروسي إلى الصين بأكثر من الضعف، في انعكاس واضح لتغيّر خريطة التدفقات التجارية العالمية بعد عزلة روسيا الغربية منذ عام 2022.
من شريك سياسي إلى شريان اقتصادي
الصين -التي حافظت على موقف محايد في أزمة أوكرانيا- تحوّلت اليوم إلى شريان تجاري شبه حصري بالنسبة لروسيا في قطاعات عدة، على رأسها الطاقة والمعادن؛ فحجم التبادل التجاري بين البلدين تخطى 240 مليار دولار في 2024، وسط انكماش مستمر في العلاقات الروسية الأوروبية، وتوسّع في العقوبات الغربية.
التحوّل الأهم يتمثل في قطاع المعادن، حيث تُعد روسيا من كبار المنتجين العالميين للألمنيوم، والنحاس، والنيكل، وهي مواد أساسية في الصناعات التكنولوجية والطاقة المتجددة.
وبينما لم تشمل العقوبات الأمريكية شركتي “Rusal” و”Norilsk Nickel”، فإن تأثير القيود الغربية شمل منع تداول المعادن الروسية في منصات رئيسية مثل بورصة لندن للمعادن، وبورصة شيكاغو التجارية، ما دفع موسكو إلى الشرق.
تفريغ المخزونات وتسريع الشحنات إلى بكين
صعود صادرات شركة “PJSC” -أكبر منتج للألمنيوم في روسيا- إلى الصين في 2025 لا يُعبّر فقط عن ارتفاع الطلب، بل يعكس أيضًا تحرّكًا استراتيجيًّا لتفريغ مخزونات متراكمة بسبب اختناقات النقل الداخلي، خاصة في شبكة السكك الحديدية الروسية، بحسب مصادر تجارية مطلعة.
وتُقدَّر الكميات المُتوقَّع تصديرها من الألمنيوم الروسي إلى الصين هذا العام بنحو 1.5 مليون طن، وهو رقم قياسي يعكس توجّهًا استراتيجيًا من موسكو نحو تثبيت الاعتماد المتبادل مع بكين، في وقت تحاول فيه الأخيرة سد فجوة الإمدادات الناجمة عن ارتفاع الطلب المحلي على المعادن.
تعرّف أيضًا إلى تفاصيل الاتفاق التجاري بين أمريكا والصين وتأثيره على الاقتصاد العالمي
شراكات جديدة وتوسّع في النحاس الكاثودي
لا تقتصر الطفرة التصديرية على الألمنيوم فحسب، بل تشمل أيضا النحاس؛ حيث كثّفت شركة “PJSC” مبيعاتها إلى الصين منذ منتصف 2024، وتسعى حاليًا لتوسيع نطاق التعاون عبر اتفاقيات مع وحدات تابعة لشركة “Shandong Gold” الصينية.
وتُركّز هذه الشراكة على شحنات النحاس الكاثودي، وهو شكل مكرر وعالي الجودة من المعدن يستخدم في الصناعات الكهربائية والإلكترونية.
هذه الشراكات تُتيح لروسيا التخفيف من تأثير القيود الغربية، وتمكين شركاتها الكبرى من الدخول إلى أكبر سوق مستهلكة للمعادن في العالم، حيث تُمثّل الصين وحدها ما يزيد على نصف الطلب العالمي على النحاس.
شركات تحت العقوبات والتصدير مستمر
رغم خضوع بعض الشركات الروسية للعقوبات الغربية، مثل “Russian Copper Company” و”UMCC – Ural Mining and Metallurgical Company”، فإن ذلك لم يمنع استمرار التصدير إلى الصين.
ووفقًا لمصادر مطّلعة، فإنَّ جزءًا من هذه الصادرات لا يتم عبر صفقات مباشرة، بل من خلال وسطاء تجاريين، حيث تُستخدم مخزونات معدنية أنتجتها روسيا قبل فرض العقوبات أو تم تمريرها عبر بورصات محايدة.
ويُذكر أن شركة “Glencore Plc” -وهي إحدى أكبر شركات تجارة السلع في العالم- لجأت في وقت سابق إلى شراء النحاس الروسي من بورصة لندن للمعادن بهدف إعادة تصديره إلى الصين، في ظل شحّ الإمدادات وتفاقم الضغط على سلاسل التوريد الصينية.
اقرأ أيضًا: ترامب يهدد روسيا بفرض عقوبات.. من سيدفع الثمن؟
القيود الأوروبية تُغيّر وجهة المعادن الروسية
الاتحاد الأوروبي، وفي إطار تشديد العقوبات على روسيا، أقر هذا العام حظرًا تدريجيًّا على واردات الألمنيوم الروسي، مع تطبيق نظام حصص استيرادية قدرها 275 ألف طن فقط حتى فبراير 2026، الأمر الذي دفع بشحنات المعادن الروسية إلى البحث عن ملاذ شرقي بديل، وكانت الصين الخيار الأقرب والأكثر قابلية للتنفيذ.
وقد ساعدت البنية التحتية اللوجستية المتنامية بين موسكو وبكين، بما في ذلك خطوط القطارات العابرة للحدود، والموانئ الشرقية الروسية، في تسهيل التوسّع السريع لصادرات المعادن، وإعادة توجيه مسارات التجارة التي كانت تمر سابقًا عبر أوروبا.
استثناءات من العقوبات لا تعني حرية اقتصادية
رغم أن شركتي “Rusal” و”Norilsk Nickel” ليستا مدرجتين على قوائم العقوبات الأمريكية والغربية، إلا أن القيود المفروضة على بورصات التداول، وأنظمة الدفع، وشركات الشحن والتأمين، تُقيد حرية التصدير والتمويل للعديد من العمليات التجارية.
هذه البيئة دفعت الشركات الروسية إلى انتهاج أساليب بديلة للتعامل، مثل العقود الثنائية المقوّمة باليوان أو الروبل، والتوسع في اتفاقيات “مقايضة السلع”، والاعتماد على منصات تجارة غير تقليدية.
والنتيجة كانت أنّ موسكو وجدت في الصين مخرجًا اقتصاديًّا لتجاوز الحظر، لكن بثمن استراتيجي يُعمّق من تبعيتها لشريك واحد.
اقتصاد المعادن سلاح جيوسياسي مزدوج
المعادن الأساسية ليست مجرد منتجات صناعية، بل هي عناصر حيوية في الاقتصاد العالمي، ترتبط بالتحوّل نحو الطاقة النظيفة، والسيارات الكهربائية، والبنى التحتية الذكية.
روسيا تدرك هذه الحقيقة، وتسعى لاستثمار موقعها كمورّد رئيسي في قلب معركة الجغرافيا الاقتصادية الجديدة، لكن الاعتماد المتزايد على السوق الصينية يُضعف قدرتها على المناورة، ويجعلها رهينة لمتغيرات الاقتصاد الآسيوي، ولشروط بكين التفاوضية، ما يجعل من ملف المعادن الروسية أحد أكثر الملفات حساسية في ميزان القوى العالمي.
قد يهمّك أيضًا: استراتيجية أمريكا تجاه روسيا.. بين التصعيد العسكري وإعادة التقييم