اتفاقية بريتون وودز، تُعتبر واحدة من الأحداث التي شكّلت النظام الاقتصادي العالمي في القرن العشرين، وأسست لنظام مالي دولي جديد تميز بتنظيم العلاقات النقدية بين الدول المستقلة في العالم، وهي تُعد الأساس الذي قامت عليه العديد من المؤسسات المالية الدولية. في هذا المقال، سنستعرض تاريخ اتفاقية بريتون وودز، الأسباب التي أدت إلى تشكيلها، المبادئ التي قامت عليها، النتائج التي ترتبت عليها، وأثرها المستمر حتى اليوم.
الخلفية التاريخية لاتفاقية بريتون وودز
في خضم الحرب العالمية الثانية، بدأت الدول الحليفة في التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب، وكان من الضروري وضع نظام اقتصادي يساعد على إعادة بناء الدول المتضررة من الحرب وتعزيز الاستقرار الاقتصادي. كان الاقتصاد العالمي قبل الحرب يعاني من مشاكل عديدة مثل الحماية التجارية، تقلبات أسعار الصرف، والمنافسة النقدية، التي ساهمت في تفاقم الكساد الكبير والتوترات السياسية.
اقرأ أيضا: تقرير صادم حول أداء الاقتصاد العالمي
المؤتمر والمشاركون
في يوليو 1944، اجتمع ممثلون من 44 دولة في فندق Mount Washington في بريتون وودز، نيو هامبشير، الولايات المتحدة الأمريكية. الشخصيتان الرئيسيتان في المؤتمر كانتا جون ماينارد كينز من المملكة المتحدة وهاري ديكستر وايت من الولايات المتحدة، اللذان قدما أفكاراً مختلفة لكيفية تنظيم النظام النقدي العالمي.
النظام الجديد
تم الاتفاق على إنشاء نظام نقدي يقوم على أسعار صرف ثابتة لكن قابلة للتعديل. تم ربط العملات بالدولار الأمريكي، والدولار بدوره مرتبط بالذهب بسعر 35 دولارًا للأوقية. هذا النظام كان يهدف إلى توفير استقرار الأسعار وتسهيل التجارة الدولية.
إنشاء المؤسسات الدولية
نتج عن المؤتمر إنشاء صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي. صندوق النقد الدولي كان مسؤولاً عن مراقبة سياسات أسعار الصرف وتقديم المساعدة المالية للدول لتجاوز مشاكل ميزان المدفوعات. من ناحية أخرى، كان الهدف من البنك الدولي توفير التمويل لمشاريع إعادة البناء والتنمية.
التأثيرات والنتائج لاتفاقية بريتون وودز
نظام بريتون وودز ساهم في فترة غير مسبوقة من النمو الاقتصادي في فترة ما بعد الحرب، ومع ذلك، بحلول السبعينيات، بدأ هذا النظام يواجه تحديات كبيرة مع ارتفاع التضخم والعجز التجاري الأمريكي، مما أدى إلى انهيار النظام في 1971 عندما أعلن الرئيس نيكسون عن إنهاء تحويل الدولار إلى ذهب. هذا القرار أدى إلى انتقال العالم إلى نظام أسعار الصرف العائمة الذي نعرفه اليوم.
سلبيات اتفاقية بريتون وودز
- تقييد السياسات النقدية: قيدت اتفاقية بريتون وودز حرية الدول في تحديد سياستها النقدية، مما كان له تأثير سلبي على النمو الاقتصادي والاستجابة للتحديات الاقتصادية المختلفة.
- تضخم العملات: قد تسهم نظام الدولار الذهبي في زيادة تضخم العملات، حيث يتيح للولايات المتحدة طباعة المزيد من الدولارات بمقابل الذهب الذي تمتلكه، مما يمكن أن يؤدي في النهاية إلى فقدان قيمة العملة.
- عدم المرونة الاقتصادية: كان النظام الثابت للصرف الذي أقرته اتفاقية بريتون وودز يعرض الدول لعدم المرونة في التعامل مع التحديات الاقتصادية المختلفة، حيث لم يتمكنوا من تعديل قيمة عملتهم وفقًا لاحتياجات اقتصادهم.
- الأزمات النقدية: تسبب نظام الدولار الذهبي في نشوء أزمات نقدية في بعض الأحيان، خاصة عندما لم تكن الدول قادرة على تحمل التزاماتها الذهبية.
- زيادة التبادل النقدي: أدى نظام الدولار الذهبي إلى زيادة التبادل النقدي بين البلدان، مما أدى في بعض الأحيان إلى حدوث فجوة تجارية بين الدول، مما أثر سلبًا على الاقتصادات الوطنية.
صدمة نيكسون
عام 1971 خرج الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون على العالم فجأة في مشهد لا يتصوره أحد حتى في أفلام الخيال، ليصدم كل سكان الكرة الأرضية جميعًا بأن الولايات المتحدة لن تسلم حاملي الدولار ما يقابله من ذهب، واكتشف العالم أن الولايات المتحدة كانت تطبع الدولارات بعيدًا عن وجود غطاء من الذهب وأنها اشترت ثروات الشعوب وامتلكت ثروات العالم بحفنة أوراق خضراء لا غطاء ذهبي لها.
أي أن الدولارات ببساطة عبارة عن أوراق تطبعها الماكينات الأميركية ثم تحدد قيمة الورقة بالرقم الذي ستكتبه عليها فهي 10 أو 100 أو 500 دولار، بينما الثلاث ورقات هن نفس القيمة.
وأعلن نيكسون حينها أن الدولار سيُعوَّمُ أي ينزل في السوق تحت المضاربة، وسعر صرفه سيحدده العرض والطلب بدعوى أن الدولار قوي بسمعة أميركا واقتصادها، فلم تتمكن أي دولة من الاعتراض أو إعلان رفض هذا النظام النقدي الجديد لأن هذا الاعتراض سيعني حينها أن كل ما خزنته هذه الدول من مليارات الدولارات في بنوكها سيصبح ورقًا بلا قيمة وهي نتيجة أكثر كارثية مما أعلنه نيكسون.
الإرث المستمر لاتفاقية بريتون وودز
رغم انهيار نظام بريتون وودز، فإن الهياكل والمؤسسات التي أُنشئت في ذلك الوقت لا تزال تلعب دوراً محورياً في الاقتصاد العالمي. صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، على وجه الخصوص، يستمران في توفير الموارد المالية والفنية لدعم الاستقرار الاقتصادي والتنمية في مختلف أنحاء العالم.
في النهاية، كانت اتفاقية بريتون وودز نقطة تحول في الإدارة الاقتصادية العالمية، حيث قدمت نموذجاً جديداً للتعاون الدولي في مجال السياسة النقدية والمالية، وأسست لمرحلة من النمو والتعاون ساعدت العالم على التعافي من ويلات الحرب والتحول نحو الرخاء.