استراتيجية أمريكا تجاه روسيا.. بين التصعيد العسكري وإعادة التقييم

تُعد العلاقات الأمريكية الروسية واحدة من أكثر الملفات تعقيدًا في السياسة الدولية، حيث تتداخل فيها الأبعاد العسكرية والاقتصادية والجيوسياسية بشكل كبير، ومع استمرار الحرب في أوكرانيا تزايدت المخاوف من أن يؤدي التصعيد العسكري بين الجانبين إلى مواجهة مباشرة قد تمتد إلى نطاق أوسع، مما يفرض ضرورة إعادة تقييم استراتيجية أمريكا تجاه روسيا في ظل متغيرات دولية متسارعة.

التصعيد العسكري الغربي وحدوده

منذ بداية الحرب، زادت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو من حجم ونوعية الأسلحة المقدمة لأوكرانيا بشكل تدريجي، بدءًا من الأسلحة الخفيفة وصواريخ جافلين المضادة للدبابات، وصولًا إلى أنظمة المدفعية المتقدمة، والدبابات الغربية الحديثة، والصواريخ بعيدة المدى، وأخيرًا مقاتلات “إف-16” وصواريخ “أتاكمس” طويلة المدى، وذلك بهدف تقليص الفجوة في القوة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا دون تدخل مباشر من الناتو.

لكن الغرب الآن يواجه معضلة استراتيجية: هل يستمر في تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا رغم المخاطر الاقتصادية والعسكرية التي تترتب عليه؟ أم يتجه نحو التصعيد عبر السماح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الغربية لضرب العمق الروسي، أو حتى نشر قوات غربية، مما يزيد بشكل كبير من احتمال اندلاع مواجهة مباشرة مع روسيا؟

وفي هذا السياق، يقول محمد خيري الباحث السياسي، إنَّ أحد العوامل الرئيسية التي تحد من التصعيد غير المحدود هو خطر اندلاع صراع مباشر بين الناتو وروسيا، فبموجب المادة الخامسة من معاهدة الناتو، يُعتبر أي هجوم على أحد أعضاء الحلف هجومًا على الجميع، ما يستلزم ردًا جماعيًا، وبالتالي فإنَّ أي اتساع للحرب، سواء عبر تدخل مباشر للناتو أو من خلال ضربات أوكرانية في عمق روسيا باستخدام أسلحة غربية، قد يؤدي إلى مواجهة خطيرة بين القوى النووية الكبرى.

وأضاف خيري أنّه في حال حدوث تصعيد كبير، ستجد الولايات المتحدة نفسها أمام خيارين صعبين: إما الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، مما يرفع خطر التصعيد النووي، أو إعادة تقييم موقفها الاستراتيجي والبحث عن طرق لخفض التوترات.

هل التهديد النووي الروسي مجرد خطاب سياسي؟

“هناك جدل مستمر حول مدى جدية التهديدات النووية الروسية. فبينما يرى البعض أنَّها مجرد تهديدات ردعية تهدف إلى منع المزيد من التدخل الغربي، يحذر آخرون من أن تجاوز عتبة معينة في التصعيد قد يدفع روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية، سواء التكتيكية أو الاستراتيجية. وهُنا يجدر الإشارة إلى أنّ احتمال التصعيد النووي لا يمكن تجاهله تمامًا مع امتلاك روسيا لأكبر ترسانة نووية في العالم، تضم حوالي 5889 رأسًا نوويًا”، بحسب خيري.

وقد أشار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خلال اجتماعه مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، في 28 فبراير 2025، إلى مخاطر التصعيد بقوله: “أنت تخاطر بحياة ملايين البشر، وتخاطر بالحرب العالمية الثالثة”.

رغم أن هذا التصريح قد يكون محل جدل، فإنَّه يعكس مخاوف أمريكية حقيقية بشأن مخاطر الانخراط العسكري العميق في الصراع الأوكراني، خاصة إذا أدى إلى تصعيد لا يمكن السيطرة عليه.

المصالح الاقتصادية وتأثيرها على الموقف الأمريكي

لفت الباحث السياسي إلى أنَّه بجانب العوامل العسكرية، تلعب المصالح الاقتصادية دورًا بارزًا في تشكيل سياسات الولايات المتحدة تجاه روسيا، فبينما تُعد أوروبا حليفًا استراتيجيًا لواشنطن، فإنَّها أيضًا منافس اقتصادي، خاصة في ظل تصاعد التوترات التجارية، أمَّا روسيا، رغم كونها خصمًا جيوسياسيًا، فإنَّها ليست منافسًا اقتصاديًا مباشرًا للولايات المتحدة، بل تمثل سوقًا غير مستغلة يمكن أن تكون مربحة للشركات الأمريكية مستقبلاً.

وبالتالي، فإنَّ استمرار المواجهة مع روسيا قد يؤدي إلى اضطرابات في أسواق الطاقة، وعرقلة وصول الشركات الأمريكية إلى الموارد الروسية، وإجبار أوروبا على زيادة إنفاقها العسكري، مما قد يكون له تأثير سلبي في الاقتصاد الأمريكي. وفي المقابل، فإنَّ تخفيف التوترات مع موسكو قد يسمح لواشنطن بتخفيف أعبائها العسكرية، والتركيز على مواجهة التحديات الاستراتيجية الأخرى، مثل صعود الصين.

اقرأ أيضًا: حرب الرسوم الجمركية تشتد بين الصين وأمريكا

إعادة تقييم العلاقات الأمريكية الروسية

مع تعقيد الوضع الجيوسياسي، قد تجد الولايات المتحدة نفسها مجبرة على إعادة تقييم سياستها تجاه روسيا، مع الأخذ في الاعتبار عدة عوامل:

  • استعدادها لمواجهة محتملة مع الصين: لا تستطيع واشنطن أن تجر نفسها إلى صراع عسكري مباشر مع روسيا بينما تستعد لمواجهة الصين.
  • العبء الأمني في أوروبا: أي تصعيد كبير مع روسيا سيضع أعباءً غير متناسبة على الولايات المتحدة، في حين قد يتردَّد حلفاؤها الأوروبيون في تحمل المخاطر نفسها.
  • التأثير في المرونة الاستراتيجية الأمريكية: مواجهة طويلة الأمد مع روسيا قد تُضعف قدرة واشنطن على التعامل مع تهديدات أخرى، مما يجعلها في وضع استراتيجي صعب.

العوائق أمام التقارب الأميركي الروسي

رغم إمكانية تحقيق بعض الانفتاح في العلاقات الأمريكية الروسية، إلَّا أنَّ هناك عقبات كبرى تحول دون ذلك:

  • العداء التاريخي وعدم الثقة: المواجهات الطويلة بين موسكو وواشنطن جعلت من الصعب تجاوز الخلافات العميقة.
  • الموقف الأوروبي المتشدد: دول مثل بولندا ودول البلطيق ترفض أي تقارب مع روسيا، مما يعقد أي محاولة أمريكية لخفض التوترات.
  • المعارضة السياسية داخل الولايات المتحدة: هناك تيارات قوية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي تعتبر روسيا خصمًا استراتيجيًا، وترفض أي تنازلات لموسكو.
  • العلاقات الروسية الصينية: روسيا أصبحت تعتمد اقتصاديًا بشكل متزايد على الصين، مما قد يجعلها غير مستعدة لتقديم تنازلات كبيرة لواشنطن.

واختتم خيري تصريحاته، مؤكدًا أنَّ التوجه نحو إعادة تقييم العلاقات الأمريكية الروسية لا ينبع من رغبة في تحسين العلاقات، بل من اعتبارات استراتيجية واقتصادية تهدف إلى تقليل الأعباء العسكرية والاستعداد لمواجهة تحديات أخرى.

ورغم أنَّ سياسة “الاحتواء” ما زالت تسيطر على التفكير الأمريكي، إلّا أنَّ الضرورات الجيوسياسية قد تدفع واشنطن إلى تبني نهج أكثر براغماتية في التعامل مع موسكو، خاصة في ظل التغيرات المتسارعة في ميزان القوى العالمي.

وفي النهاية، فإن مستقبل استراتيجية أمريكا تجاه روسيا سيعتمد على تطورات الحرب في أوكرانيا، واستراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين، والقدرة على تجاوز العقبات السياسية والاقتصادية القائمة.

نظرة على الاقتصاد الأمريكي في 2025: هل يتجه نحو الركود أم يتعافى ببطء؟

هل يمكن احتواء التصعيد دون مواجهة مباشرة؟

من جانبه صرح الدكتور أحمد عناني، خبير العلاقات الدولية، بأنَّ استراتيجية أمريكا تجاه روسيا لا تقتصر على الاعتبارات الاقتصادية والاستراتيجية فحسب، بل إنَّ البعد العسكري الجيوسياسي يشكل ركيزة أساسية في التفاعلات بين القوتين. وأوضح أنَّ الحرب في أوكرانيا فرضت حدودًا واضحة للضغوط العسكرية الغربية، حيث بات أي تصعيد إضافي ينطوي على مخاطر مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا.

وأشار عناني إلى أنَّ المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا شهدت تصاعدًا تدريجيًا، بدءًا من الأسلحة الخفيفة وصولًا إلى الطائرات المقاتلة المتطورة والصواريخ بعيدة المدى، إلَّا أنَّ هذا النهج يواجه معضلة حقيقية، حيث يتعيَّن على الغرب الموازنة بين دعم أوكرانيا وعدم تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تدفع موسكو إلى ردود فعل غير متوقعة.

وفيما يتعلق بسياسات الولايات المتحدة، أوضح الدكتور عناني أنَّ واشنطن تجد نفسها أمام تساؤلات استراتيجية معقدة: إلى أي مدى يمكنها دعم أوكرانيا دون أن تخاطر بمواجهة نووية مع روسيا؟ وما هي حدود التزامها بالأمن الأوروبي إذا انزلقت الحرب إلى نطاق أوسع؟

وبيّن أنَّ الالتزام الأمريكي بحماية أوروبا يفرض عليها اتخاذ قرارات صعبة، خاصة أنَّ بعض الدول الأوروبية، مثل بولندا ودول البلطيق، تدفع نحو سياسات أكثر تشددًا تجاه موسكو، لكنها تظل غير قادرة على تحمل عبء أي مواجهة عسكرية مباشرة دون دعم الولايات المتحدة.

المخاطر النووية

أوضح الدكتور عناني أنَّ هناك انقسامًا في وجهات النظر؛ حيث يرى البعض أنَّ تهديدات روسيا باستخدام الأسلحة النووية تظل جزءًا من سياسة الردع، في حين يُحَذِّر آخرون من أنَّ التصعيد غير المحسوب قد يؤدي إلى استخدام فعلي للأسلحة النووية، سواء التكتيكية أو الاستراتيجية، وهو سيناريو لا يمكن تجاهله بالنظر إلى حجم الترسانة النووية الروسية.

مخاوف من اندلاع حرب عالمية ثالثة

تطرق عناني إلى تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال لقائه مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والتي حذر فيها من أنَّ استمرار الحرب قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة. وأكَّد أنَّ هذه التصريحات، بغض النظر عن سياقها السياسي، تعكس مخاوف حقيقية داخل دوائر صنع القرار الأمريكي من أنَّ التصعيد المستمر قد يخرج عن السيطرة.

المصالح الاقتصادية

شدَّد عناني على أن الولايات المتحدة لا تنظر إلى أوروبا كحليف استراتيجي فحسب، وإنّما كمنافس اقتصادي أيضًا، خاصة مع تزايد السياسات الحمائية، في حين أنّ روسيا، رغم كونها خصمًا جيوسياسيًا، تظل سوقًا غير مستغلة بالنسبة للشركات الأميركية.

وأوضح أن استمرار المواجهة مع موسكو يؤدي إلى تعطيل أسواق الطاقة العالمية، ويجبر واشنطن على تحمل تكاليف عسكرية باهظة، مما قد يدفعها في النهاية إلى إعادة تقييم سياستها تجاه روسيا.

إدارة المخاطر

وفقًا لعنابي، الولايات المتحدة قد تجد نفسها مضطرة إلى إعادة ضبط علاقتها مع روسيا، ليس بدافع التقارب بحد ذاته، ولكن من أجل إدارة المخاطر الاستراتيجية وإعادة توجيه تركيزها نحو التحديات المستقبلية، على رأسها المنافسة مع الصين، إلَّا أنّ هذا التحول يواجه عقبات كبرى، أبرزها معارضة الحلفاء الأوروبيين، والانقسامات الداخلية في السياسة الأمريكية، فضلًا عن العلاقات المتشابكة بين موسكو وبكين.

واختتم الدكتور أحمد عناني تصريحاته بالتأكيد على أنّ مستقبل العلاقات الأمريكية-الروسية سيكون محكومًا بمزيج من المصالح الاقتصادية والمخاطر العسكرية والضغوط السياسية الداخلية، مشيرًا إلى أنَّ أيّ تحرك نحو تخفيف التوترات سيعتمد على توازن القوى العالمي، ومدى قدرة واشنطن على تجاوز الانقسامات الداخلية وتقديم رؤية استراتيجية متماسكة لمستقبل علاقتها مع موسكو.

قد يهمّك أيضًا: هل تقود سياسات ترامب التجارية أمريكا إلى عزلة اقتصادية؟

تابعنا على صفحتنا على فيسبوك

تابعنا أيضًا على صفحتنا على إنستغرام

أخبار ذات صلة