مستقبل سوريا المجهول.. من يدير الاقتصاد ويدفع رواتب السوريين؟

يمر المشهد السوري الحالي بتطورات معقدة تشكل تحديات كبيرة أمام القوى السياسية والعسكرية، لا سيما في ظل مرحلة انتقالية تتسم بترقب حذر لمستقبل البلاد بعد سقوط النظام. ومع تعمق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، برز سؤال مهم: من يدفع رواتب السوريين في مرحلة ما بعد نظام الأسد؟ تبدو قوى المعارضة أمام اختبار صعب لتحقيق الاستقرار وإعادة بناء مؤسسات الدولة!

التحديات والفرص أمام المعارضة السورية

يرى خبراء ومحللون أنَّ التحديات أمام الشعب السوري لا تقتصر على توحيد الصفوف بين الفصائل المعارضة فحسب، وإنّما تمتد إلى قضايا أكثر تعقيدًا، مثل إدارة الموارد، ودفع الرواتب، وإعادة هيكلة المؤسسات المالية والعسكرية، وبينما تمثل هذه المرحلة فرصة لبناء سوريا جديدة، فإنَّها تنطوي أيضًا على العديد من المخاطر التي قد تعيد البلاد إلى دائرة الصراع الداخلي.

خلال محادثة أجراها مع فريق “Econ-Pedia“، قال الدكتور حسن سلامة، أستاذ العلوم السياسية، إنَّ المشهد السوري الحالي يحمل ملامح معقدة، ولكن يمكن تفكيكها لفهم التحديات والفرص المتاحة أمام قوى المعارضة.

ووفقًا لقوله، في حال انطلقنا من الوضع الراهن سنرى أنَّ قوى المعارضة تُسيطر على مناطق واسعة، لكن يبقى السؤال الجوهري: هل تستطيع هذه القوى الحفاظ على وحدتها وتجنب الصدامات الداخلية؟ هذا التخوف وارد، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار التباين الأيديولوجي والتوجهات المختلفة لكل فصيل.

اقرأ أيضًا: أوروبا تغلق أبوابها في وجه اللاجئين السوريين

القوى المسيطرة ومعادلة التوازن

“التاريخ السوري يُظهر أنَّ البلاد كانت دائماً عرضة للتعددية في القوى والتوجهات، وهو ما يثير تساؤلات حول إمكانية استمرار هذا النمط في المناطق المحررة الأخرى. فهذا تحدٍ جوهري يتطلب وعياً مشتركاً من قبل الفصائل لتجاوز خطر الصدامات التي قد تكون مدمرة في هذه المرحلة الحساسة”، يقول سلامة.

في الوقت نفسه، أكد سلامة أنَّ “الصراعات غالباً ما تشتعل بين الأطراف عندما تكون القوى متوازنة نسبياً، أما في الوضع السوري الحالي فالأمر مختلف؛ إذ إنّ هناك قوة رئيسة مسيطرة وأخرى صغيرة غير قادرة على مواجهتها، مما يجعل احتمالات التصادم أقل في الوقت الراهن”.

وأضاف: “هذه الهيمنة النسبية للقوة الأكبر تدفع بقية الأطراف إلى تأجيل خلافاتها والتعاون لتجاوز المرحلة المؤقتة، إذ إنّ المرحلة الحالية تتطلب من جميع الفصائل تجاوز المصالح الفردية والعمل على تحقيق هدف مشترك، وهو الانتقال إلى مرحلة انتقالية أكثر استقراراً”.

تأثير القوى الدولية والإقليمية على المشهد السوري

قال الدكتور سلامة: “في الماضي، كانت الساحة السورية مشتعلة بسبب التنافس بين القوى الداعمة للفصائل المسلحة، لكننا اليوم أمام واقع مختلف، حيث لم تعد هناك قوى دولية تُقدم دعماً كبيراً لطرف ضد الآخر، وهو ما يقلل من احتمالات تصاعد الصراع الداخلي”.

وأضاف: “القوة الوحيدة الباقية التي لها تأثير واضح هي القوى المرتبطة بالشمال السوري، لكنها تُظهر توافقاً نسبياً، وهذا يفتح المجال أمام الفصائل المعارضة للعمل سوياً لتسريع إنجاز المرحلة الانتقالية وتنظيم المؤسسة العسكرية”.

مخاوف من تكرار سيناريو ليبيا

أكد الدكتور سلامة أنَّ أحد أبرز المخاوف على الصعيد السوري هو تكرار سيناريو الصراعات المسلحة الداخلية، على غرار ما حدث في ليبيا، لكنَّه يرى أنَّ هناك عوامل قد تُجنب سوريا هذا المصير.

وفي هذا السياق، قال: “وجود نواتين رئيستين، وهما هيئة تحرير الشام وحلفاؤها من جهة، والجيش الوطني السوري من جهة أخرى، يمثل قاعدة يمكن البناء عليها، إذ إنّ كلا الطرفين لديهما قواسم مشتركة يمكن أن تُعزز التعاون بدلاً من التصادم، خاصةً إذا تسارعت الخطوات لتشكيل حكومة مؤقتة تُسهم في إذابة الخلافات”.

كما أشار سلامة إلى أنّ “الإطالة في ملف الحكومة الانتقالية قد تزيد من احتمالات تفجر الأزمات الداخلية، لذلك فإنَّ الإسراع في إنجاز هذه المرحلة أمر ضروري لضمان الاستقرار وتجنب المخاطر”.

لتحليل معمّق اقرأ: كيف تفاقمت أزمة السيولة في ليبيا؟

فرص إعادة بناء الجيش السوري وتجنب الصراعات

أوضح الدكتور سلامة أن غياب القوى العسكرية التابعة للنظام السوري بشكل كامل ساهم في تقليل فرص اندلاع صراعات داخلية، كما أنّ انحلال أجهزة الأمن والشرطة التابعة للنظام سهّل على فصائل المعارضة إدارة الأمن في المناطق المحررة، مما يقلل من التوترات. بالإضافة إلى العفو العام الصادر مؤخراً، والذي منح عناصر الجيش السوري السابق حرية عدم العودة للخدمة، مما قلَّل من احتمالية ظهور قوى مناهضة”.

وقد أكَّد سلامة أن الوضع الحالي يتيح فرصة لإعادة بناء مؤسسة عسكرية جديدة تتبع الدولة السورية المستقبلية دون المرور بمواجهات مسلحة. وقال: “التحدي الآن هو تنظيم العمل المؤسسي بطريقة تضمن تجاوز أيِّ صراعات محتملة، حيث إنّ غياب القوات الأمنية والعسكرية للنظام السابق يتيح الفرصة لإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية والعسكرية وفق أسس وطنية جديدة”.

واختتم الدكتور حسن سلامة تصريحاته قائلاً: “رغم التحديات القائمة، هناك مؤشرات إيجابية توحي بإمكانية عبور هذه المرحلة الانتقالية بنجاح إذا تم اتخاذ خطوات مدروسة ومنسقة، حيث إنّ التنسيق بين الفصائل، والإسراع في تشكيل الحكومة الانتقالية، وتجنب الصدامات الداخلية، كلها عوامل ستسهم في استقرار سوريا وبناء مستقبل أفضل”.

تحديات إدارة رواتب السوريين في مرحلة ما بعد النظام

أكد الدكتور مازن إرشيد، الخبير الاقتصادي، أنَّ إدارة رواتب السوريين بعد سقوط نظام بشار الأسد ستشكل تحديًا كبيرًا لأي حكومة انتقالية أو نظام بديل، نظرًا لاعتماد ملايين السوريين على الرواتب الحكومية كمصدر رئيس للدخل، خاصةً مع انهيار الاقتصاد وندرة الموارد.

وقال إرشيد في تصريحات لـ”Econ-Pedia” إنّ “إعادة بناء المؤسسات المالية ستكون المفتاح الأساسي لنجاح المرحلة الانتقالية، حيث لا يمكن تصور استقرار سياسي أو اجتماعي دون ضمان استمرار دفع الرواتب للعاملين في القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم، وحتى القطاعات الأمنية التي قد يتم إعادة هيكلتها”.

دعم المجتمع الدولي والشفافية لضمان الاستقرار الاقتصادي

شدَّد إرشيد على أهمية الدعم الدولي في هذه المرحلة، موضحًا: “لا يمكن لسوريا وحدها، في وضعها الحالي، تمويل رواتب العاملين بالدولة، ومن الضروري أن يقوم المجتمع الدولي، بالتعاون مع المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بإنشاء صندوق خاص لدعم الرواتب خلال المرحلة الانتقالية، هذه الخطوة ستسهم في تجنب انهيار المؤسسات وضمان استمرارية تقديم الخدمات الأساسية”.

وأضاف إرشيد: “من المتوقع أن تلعب الحكومات المحلية أو المجالس الإدارية دورًا أكبر في إدارة كشوف الرواتب خلال الفترة الانتقالية، خاصة إذا تم تبني نظام لا مركزي. ومع ذلك، ستظل هذه الجهات بحاجة إلى دعم مالي وتدريبي لضمان كفاءة الإدارة والشفافية”.

وأشار إلى أنَّ الشفافية والمساءلة ستكونان تحديَين رئيسيين، موضحًا: “يجب أن تخضع عملية دفع الرواتب لرقابة صارمة، سواء من الحكومة الانتقالية أو من الجهات الدولية المشرفة على الدعم، إذ إنّ الفساد هو العدو الأول لأيِّ عملية انتقالية، ويجب تجنبه بأي ثمن”.

واختتم الدكتور إرشيد تصريحاته قائلاً: “المجتمع الدولي أمام مسؤولية كبيرة لضمان استقرار سوريا اقتصاديًا واجتماعيًا بعد سقوط النظام الحالي. ودعم الرواتب لا يعد مسألة إنسانية فحسب، بل استثمار في استقرار سوريا والمنطقة ككل”.

التحديات النقدية في سوريا خلال المرحلة الانتقالية

من جانبها ترى الدكتورة مروة الشافعي، الخبيرة الاقتصادية، أنَّ الوضع النقدي في سوريا يُعاني من تحديات جسيمة في ظل المرحلة الانتقالية التي دخلتها البلاد عقب سقوط النظام، وأكدت أن شح السيولة والحاجة الملحة إلى ضبط الاحتياطيات النقدية الأجنبية يمثلان أبرز العقبات التي تواجه المؤسسات المالية، لا سيما البنك المركزي السوري.

وأشارت في تصريحاتها لموقع “Econ-Pedia” إلى أنَّ “صرف رواتب السوريين، وتنفيذ العمليات المالية يمثلان تحديًا كبيرًا في ظل غياب الاستقرار النقدي، كما أن هناك صعوبة في السيطرة على حركة الأموال نتيجة لغياب آليات واضحة لتنظيم السوق المالية”.

تأثير انهيار الاحتياطيات النقدية على الاقتصاد السوري

أوضحت الشافعي أنَّ الاحتياطي النقدي في البنك المركزي السوري شهد انهيارًا كبيرًا، فقبل عام 2011، كانت احتياطيات البنك المركزي السوري تُقدر بـ5 مليارات دولار، لكن قبيل سقوط النظام تعرضت الاحتياطيات لعمليات استنزاف واسعة، حيث قام العديد من مسؤولي النظام بتحويل أموالهم إلى الخارج، مما أدى إلى فقدان جزء كبير من هذه الاحتياطيات، خاصة مع تزايد الاعتماد على تجارة غير مشروعة مثل الكبتاغون”.

وأشارت  إلى أن النظام كان يعاني من أزمة مالية خانقة منذ سنوات، وقد فشل في الوفاء بالتزاماته الداخلية والخارجية، وهذا كان أحد العوامل الرئيسية في انهياره، كما أن الزلزال الأخير زاد الطين بلة، حيث توقفت المساعدات الإنسانية التي كانت تُعتبر شريان حياة للاقتصاد السوري”.

وأضاف الخبيرة: “غياب الشفافية في إدارة الاحتياطيات النقدية كان مشكلة مزمنة، والحكومات المتعاقبة استنزفت الاحتياطات عبر سياسات غير مدروسة، مثل التدخل غير الفعّال في سوق الدولار وتغطية عجز الموازنة عبر الاقتراض من البنك المركزي”.

ضرورة استقلالية البنك المركزي وإعادة الثقة

أكدت الشافعي أنَّ الوضع ما يزال غامضًا، مضيفة:”حتى الآن، لم يتحقق استقلال حقيقي للبنك المركزي، إذ إنّ محافظ البنك المركزي الحالي ما يزال في منصبه، كما أنّ القوات العسكرية تسيطر على جزء كبير من القرارات الاقتصادية، وهذا المشهد يذكرنا بما حدث في العراق، حيث تم استغلال الفوضى لتحقيق مكاسب شخصية”.

وفي هذا السياق، أكَّدت الخبيرة على أن “سوريا بحاجة إلى إصلاح شامل للنظام النقدي والمالي، حيث يجب على السلطة الانتقالية وضع سياسات اقتصادية واضحة تُعيد بناء الثقة في المؤسسات المالية، مع ضمان استقلالية البنك المركزي لتجنب الوقوع في أخطاء الماضي”. كما شدَّدت على أن المرحلة المقبلة تتطلب دعمًا دوليًا لضمان استقرار الاقتصاد السوري وتلبية احتياجات الشعب الأساسية.

اقرأ أيضًا: كيف تؤثر حرب سوريا على الاقتصاد المصري؟

تغييرات جذرية في إدارة المؤسسات بعد سقوط النظام

أكد الباحث منير أديب، المحلل السياسي، أنَّ المرحلة الانتقالية في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد ستشهد تغييرات كبيرة في طريقة إدارة المؤسسات الحكومية، بما في ذلك دفع رواتب السوريين العاملين في الدولة.

وأوضح في تصريحات خاصة لـ”Econ-Pedia” أنَّ “الهيئة السياسية التي قادت العمليات العسكرية في الداخل السوري هي التي تولت السلطة الفعلية بعد سقوط النظام، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، التي قادت العملية العسكرية للسيطرة على المناطق السورية”.

وأضاف: “هيئة تحرير الشام، التي كانت تُعرف سابقًا بجبهة النصرة، نجحت في فرض سيطرتها على العديد من المناطق، وبتفاهمات إقليمية ودولية تم تشكيل حكومة مؤقتة بقيادة محمد البشير رئيسًا لمجلس الوزراء؛ حيث تسعى حكومة الإنقاذ لتقديم الخدمات الأساسية للموظفين وتسيير شؤون البلاد في هذه المرحلة الحرجة”.

دور حكومة الإنقاذ في استمرار العمل الحكومي

أشار أديب إلى أن هذه الحكومة ستعمل على تنظيم الرواتب ودفعها للعاملين في القطاعات الحكومية المختلفة، حيث ستكون وزارة المالية السورية والمصرف المركزي هما المسؤولان عن تأمين الأموال اللازمة لذلك.

وقال: “رغم التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تمر بها البلاد، إلا أنَّ التفاهمات بين القوى السياسية على الأرض تضمنت الحفاظ على استمرارية المؤسسات السورية، بما في ذلك دفع الرواتب، وذلك لتفادي أيّ انهيار في النظام الإداري خلال المرحلة الانتقالية”.

“على الرغم من أنَّ الكثير من المؤسسات السورية قد تعرضت للدمار خلال سنوات النزاع، إلا أن التفاهمات الأخيرة بين الحكومة السورية المؤقتة والأطراف الضامنة أكَّدت ضرورة الحفاظ على استمرارية العمل الحكومي بشكل منظم، حتى وإن كان ذلك مؤقتًا”.

انهيار الليرة السورية وتوقف الرحلات.. من وراء هذا المشهد؟ تفاصيل حاسمة في تقريرنا الحصري!

الحكومة الانتقالية ستضمن استقرار رواتب السوريين

وأضاف المحلل السياسي: “تمَّ الاتفاق على أنَّ النظام السوري الحالي سيُغادر تدريجيًا الأراضي السورية، مقابل الإبقاء على عمل المؤسسات السورية لضمان انتقال سلمي للسلطة، وهذا يشمل دفع الرواتب، الذي يتم عبر الأموال المتاحة في وزارة المالية السورية، وهو ما يجعل من الحكومة الانتقالية هي المسؤولة عن صرف هذه الرواتب خلال الفترة المقبلة”.

وأكد أديب أن “حكومة الإنقاذ، بقيادة محمد البشير، ستكون مسؤولة عن توقيع كشوف الرواتب لضمان عدم تأثر المواطنين السوريين في هذه الفترة الانتقالية. هذا التفاهم يضمن استمرارية الحياة اليومية للمواطن السوري ويخفف من التداعيات الاقتصادية المحتملة”.

وفي الختام، أشار الباحث منير أديب إلى أن “المرحلة الانتقالية تتطلب تنسيقًا بين مختلف القوى الفاعلة لضمان الاستقرار في سوريا، خاصة في ظل وجود حكومة مؤقتة تتولى مهام إدارة البلاد حتى إجراء الانتخابات المقررة في مارس 2025، لتشكيل حكومة منتخبة تعكس إرادة الشعب السوري.

موضوع ذو صلة: تأثير الأزمة السورية على العراق: الأمن الغذائي والاقتصاد تحت المجهر

تابعنا على صفحتنا على فيسبوك

تابعنا أيضًا على صفحتنا على إنستغرام

أخبار ذات صلة